حجم الأموال المهدورة فساداً وتهريباً وسرقة يفوق بكثير حجم الخسائر المترتبة على الإنهيار الاقتصادي بكونه أزمة قد يتعرض لها أي بلد فيتخذ التدابير اللازمة للخروج منها.
والفساد يعشش في زوايا السلطة والممسكين بها. هو ليس رشوة صغيرة يتقاضاها موظف صغير، لكنه نمط حياة سياسية واجتماعية، في شبكة تمسك بمواقع القرار في ما يشبه نظام الأوعية المتصلة.
ليل الثلثاء الماضي خصصت محطة “بي بي سي” ساعةً لبث تحقيق عن الهدر والفساد في قطاع الطاقة والكهرباء، وذكرتنا بملف الفيول المغشوش الذي لم ينته الى شيء. ذكرت أسماء المتورطين ومن يحميهم، ومن يمسك بقطاع الطاقة والمحروقات من الذين أوقعوا البلد في دينٍ نصفه بسبب هذا القطاع ( نحو 50 مليار دولار ). أحد المسؤولين السابقين في كهرباء لبنان إختصر شهية الممسكين بهذه البقرة الحلوب بقوله: كهرباء لبنان تتمتع بمليار دولار سنوياً كنفقات تشغيل، ومليار آخر لاستيراد المحروقات. ومن المليارين يضع سياسيون وأنصارهم اليد على الحصة الأكبر سمسرةً وبيعاً وشراءً وتوظيفاً سياسياً في مؤسسة باتت أقرب الى مصلحة السكك الحديد من حيث الانتاجية.
في الليلة نفسها كان الصحافي الباحث رياض طوق يتابع الموضوع على شاشة الـ “أم تي ڤي”. اضاف معطيات عن قطاع المحروقات في أزمته الراهنة وتناول مسألة التهريب. وفي ما يشبه الفضيحة قدم ضيفاً إستُدعي الى التحقيق لأنه تجرأ وفتح حملة ضد التهريب، فتقدمت شركات النفط بدعوى ضده.
وعلى مدى اسابيع انفرد زملاء في “الجديد” بكشف المستور عن ألاعيب أصحاب القصور. ليال بو موسى ورياض قبيسي ورامي الأمين وآدم شمس الدين قاموا بما لم تقم به لجان تحقيق برلمانية وقضائية. معهم تتابع شريط نهبك وانت غارق في مقعدك. كشفوا الكثير من خفايا انفجار المرفأ قبل ان يخطو القضاء خارج محيط العدلية، ونشروا غسيل بواخر الانتاج التركية وسماسرتها، وتابعوا تراكم ثروات المسؤولين “بفضل ربهم” وتعففهم الى الحد الذي جعلهم، زاهدين في الدنيا، يكتبون على مداخل أملاكهم: “المُلك لله”، أما الإيجار فلصاحب البناية.
لم يهتز أحد ازاء يوميات الفضائح. الناس تهتز غضباً، لكن “الجهات المختصة” لم ولن تهتز. فالفساد في لبنان بات نظاماً “سياسياً” له اجهزته وميليشياته وبنوكه. ولبنان في حاله هذه مثله مثل شقيقه العراق حيث تقدر الأموال المهدورة نهباً بـ 500 مليار دولار، على يد مجموعات حاكمة تعيد تدوير نفسها ولا ترتدع عن القتل وإثارة الصدام إذا هُددت مصالحها.
وبين لبنان والعراق قاسم مشترك هو الحضور الايراني “الأخوي”، وما كان ينقص البلدين إكتمل انحلالاً لا رجعة فيه، الا بثورة وعيٍ واختيارات. وهذه مسألة عويصة لكن لا مفر منها.