Site icon IMLebanon

تتبدّل الأرقام والأزمات تُراوِح

 

 

تتجدّد الآمال مع بداية العد العكسي لنهاية كل سنة وإطلالة سنة جديدة، وهذا يندرج في صميم الطبيعة البشرية، لأنه من دون أمل ورجاء يعمّ الحزن والإحباط، ولكن الحقيقة انّ المُتبدِّل الوحيد في هذا العالم هو الأرقام فيما الثابت الدائم هو الأزمات.

لن تختلف سنة 2023 عن سنة 2024، كما لم تختلف السنوات التي سبقت وشكّلت استمراراً للأزمات نفسها بمعزل عن تبدُّل الأسماء او عناوين هذه الأزمات، إنما المشترك دائماً، أقلّه لبنانياً، غياب حياة طبيعية في دولة تفرض الأمن وتحكم بالعدل في وضع مستمر منذ 54 عاماً تقريباً إلى اليوم، ولا أفق، حتى اللحظة، بنهاية هذه الجلجلة.

وما ينطبق على لبنان ينسحب على أكثر من دولة في هذا العالم، من حرب غزة إلى حرب أوكرانيا، وما بينهما سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان ودول إفريقيا التي استعادت الانقلابات العسكرية واللائحة تطول لدول غير مستقرة وشعوب تدفع حياتها ثمناً لحروب لا مبرِّر موضوعياً لها في هذا الزمن.

 

فكيف يمكن تفسير وتبرير تقدُّم البشرية علماً وتطوراً وتكنولوجيا ومراوحتها في عقائد موت وحروب لا تنتهي؟ وكيف يعقل ان يتطوّر الانسان في جانب ويبقى في حالة جمود في جانب آخر؟ فالحداثة يُفترض ان تدفع الانسان للبحث عن الاستقرار والراحة والطمأنينة والعيش وسط حياة هادئة وهانئة وطبيعية، وليس السعي إلى عدم الاستقرار والحروب المفتوحة.

 

وكيف يصحّ هذا التناقض بين ان يسير الإنسان بشكل مستمر إلى الأمام في ظل الاكتشافات التي توفِّر له ظروفاً حياتية أفضل، وبين سيره المتواصل إلى الخلف أو بالحد الأدنى دورانه حول نفسه في مشاهد عنف لا يفترض ان تمتّ بصِلة إلى هذا الزمن؟

 

وكيف يمكن تفسير انّ حركة البشرية تتجه دوماً إلى الأمام والمستقبل، وهذا صحيح من ناحية التطور التكنولوجي الهائل، ولكنها في المقابل تراوح في العتمة والتعصُّب والتزمُّت والتشدُّد والتخلّف؟ فالمنطق البديهي يقول انّ التقدُّم بالعلم ورفاهية الحياة وأسلوب العيش يتناقض مع ثقافة العنف والقتل والحروب.

 

وعلى رغم القفزات النوعية التي حققتها البشرية في القرن الأخير في كل المجالات والقطاعات والاختصاصات، لم تنجح في كبح جماح غرائزها وانشدادها إلى الخلف والعنف، والسؤال الذي يطرح نفسه على هذا المستوى يتعلّق بماهية التطور الذي يمكن ان يشهده العالم بعد ليجعل أهل الأرض يضعون حداً لحالة الانفصام التي تعتريهم بين السير إلى الأمام على طريق التطور والحداثة، وبين السير نحو الخلف باتجاه القتل والتقاتل وتجدُّد عقائد العنف بأسماء مختلفة؟

 

والإجابة قد تكون حاسمة بأنه يستحيل على المجتمعات البشرية ان تتصالح مع نفسها وان تتصرّف انسجاماً مع الوضع الذي ارتقَت إليه. ففي ظل التطور الهائل وأولوية الإنسان تحسين ظروف عيشه، كان من البديهي أن تسود المحبة في هذا العالم ليَنعم بالاستقرار، وان تتحوّل المنافسة بين الدول والمجتمعات حول من يستطيع توفير الظروف الأفضل لشعبه. ولكن ما يحصل هو العكس تماماً، حيث انّ بؤر الأزمات تتوالد والحروب تتكاثر، وكأنّ حركة التاريخ تسير فعلاً إلى الأمام في جوانب محدّدة مثل العلم والتطور والحداثة والتكنولوجيا، وتبقى تراوح مكانها في جوانب الأطماع واستخدام وسائل العنف لتحقيقها بالتوازي مع العقائد التي تستفيد من التطور لنشر أفكارها المتمحورة حول الفرز والفصل والعنف.

 

وحتى في الدول الراقية والديموقراطية والحديثة تحصل جرائم قتل تفوق الخيال، كما انّ الاضطرابات تعمّ العالم، فلا مجلس الأمن نجح في الحدّ من النزاعات وكبحها، ولا التطور جعل الانسان يبتعد عن العنف، وهذا مؤشّر حاسم يدلّ على أنّ الآمال بأن يسود الاستقرار في هذا العالم هي مجرّد أوهام وأحلام لن تترجم إلى واقع وحقيقة، فلا حروب دائمة ولا استقرار دائم، إنما التنقُّل الدائم بين الاستقرار وعدمه في ظل بيئة انسانية مولِّدة للأزمات على امتداد العالم.

 

وبهذا المعنى فإنّ الأعوام هي استمرارية لما سبقها أكثر مما هي انفتاح على أوضاع مختلفة وجديدة، وهذا لا يعني التسليم بهذا الأمر الواقع وكأنّ قدر البشرية التعايش الدائم مع الموت والحروب والأزمات المتناسلة، إنما من الضروري مواصلة السعي لتحويل الأرض إلى «قطعة سماء» يعيش فيها الانسان الفترة الانتقالية التي تفصله عن عودته إلى السماء بحالة وئام ومحبة وهناء واستقرار.

 

ولكن ما هو ثابت منذ قديم العصور إلى اليوم انّ تحويل الأرض إلى «قطعة سماء» مجرّد وهم، وانّ الحروب والعنف والتقاتل وعدم الاستقرار تبقى القاعدة، وانّ الأعوام تَتوارَث بعضها في مشاهد مكررة في مضمونها والمختلف فيها القوى المحرِّكة لها والزمن المتحرِّك، ما يعني انّ المتغيِّر الوحيد هو الزمن، فيما الانسان يواصل المزيد من الشيء نفسه التطور في اتجاه، والمراوحة في التخلّف في اتجاه آخر.

 

ولن يحصل في الـ2024 ما لم يحصل في 2023 سنة الماضية ولا قبلها بآلاف السنين، إنما الثابت انّ حركة التاريخ تسير باستمرار في اتجاهين متعاكسين: اتجاه التطور من جهة، واتجاه المراوحة في التخلّف من جهة أخرى. ولا يجوز الرهان على متغيرات لن تحصل بسبب الطبيعة البشرية التي لن يبدِّل التطور في سلوك البعض منها، وأكثر ما ينطبق على واقع الحال المثل الذي كان قد دأبَ البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير على ترداده حول «العربة التي يجرها حصانان في اتجاهين متعاكسين»، وهكذا حال البشرية منذ قديم العصور وستبقى على هذا المنوال، ويا للأسف، إلى الأزل.

 

وفي ظل هذه الصورة المضيئة من جهة التطور المستمر، والقاتمة من جهة عقائد العنف والحروب المستمرة، على المجتمعات والجماعات الحريصة على وجودها واستمراريتها ان تتأقلم مع هذه الأوضاع وتعمل على تطويعها بالاتجاه الذي يخدم هدفها في الوجود والاستمرارية، خصوصاً انّ حضارات وثقافات وهويات وجماعات زالت من الوجود ولم يبق لها أي أثر لأنها لم تَتنبّه إلى حركة المدّ والجزر في هذا العالم والتي تفرض عليها ان تحسب إبّان فترة المدّ حساب خط الرجعة كي لا يؤدي الجزر إلى زوالها ومحوها من الوجود.

 

وبالتوازي مع الصورة الكبرى، ففي لبنان هناك فرصة جدية أطَلّت من 7 تشرين الأول، على رغم مشاهد الموت والعنف والقتل والحرب التي تقدِّم معالجات من عمق المآسي، ويمكن لهذه الفرصة ان تسلك طريقها باتجاه تطبيق القرارات الدولية وان يستعيد لبنان حدوده المفقودة منذ العام 1968 وتقوم دولة فعلية تعيد الاستقرار والازدهار، كما يمكن ان تصطدم الفرصة بعوائق تؤدي إلى تفويتها وإجهاضها. وفي الحالتين لم يعد بالإمكان الاستمرار في واقع مأزوم بشكل متواصل منذ أكثر من خمسة عقود ويشكل تهديدا جديا لتركيبة لبنان التعددية، الأمر الذي يستدعي فصل لبنان عن أزمات المنطقة التي لا يبدو انّ هناك نهاية لها، وفي حال تَعذُّر هذا الفصل يجب التفكير بفصل جزئي كون الجوهر والأساس والهدف الحفاظ على الوجود والذات.

 

ويفترض التمييز طبعاً بين الحلول المرحلية والحلول النهائية، وحيث ان السنة الجديدة تنطلق على وقع تمديد عسكري أعطى الآمال بأن ينسحب على الانتخابات الرئاسية في مرحلة لم يعد أمام «حزب الله» سوى تقديم التنازلات لترييح الجبهة الداخلية او تنفيسها في الوقت الذي يخوض مواجهة قاسية وخاسرة مع إسرائيل في حالتي الحرب الشاملة او اضطراره إلى تسليم الحدود للدولة والقوات الدولية، ولكن بمعزل عن التطورات على خط الاستحقاق الرئاسي الذي يندرج ضمن الحلول المرحلية، فإنّ العقدة المستعصية تبقى في دور «حزب الله» وسلاحه والذي يندرج ضمن الحلول النهائية التي لا أفق بعد لمعالجتها.

 

وعَود على بدء لن تختلف السنة الجديدة عن السنة السابقة، إنما المزيد من الشيء نفسه في عالم يسير في اتجاهين متعاكسين و»الشاطر بشطارتو» بالمحافظة على استمرارية وجوده، وأكثر توصيف ينطبق، ربما، على حركة البشرية ما قاله يوماً ابن خلدون: «الأيام الصعبة تُخرج رجالاً أقوياء، الرجال الأقوياء يصنعون الرخاء والترف، الرخاء يخرج رجالاً ضعفاء، الرجال الضعفاء يصنعون أياما صعبة»، ما يعني حركة دائرية متواصلة لا تصل إلى خط النهاية سوى مع الموت، وبالتالي الهدف المزدوج الذي يفترض العمل عليه: ان يحقِّق الانسان الفرد ذاته، والهدف الثاني ان تعلم الجماعات والشعوب بأنّ استمراريتها مرتبطة بالرهان على ذاتها وقوتها وعلى السياسات التي تضعها وتبتدعها وليس بالرهان على القدر ولا على انّ دورها يواكب حركة التطوّر، أي ان تكتفي بكونها تَتموضَع في الجانب الصحيح في هذا العالم، لأنه، ويا للأسف، لا يصحّ إلا الصحيح الذي وراءه مطالب ورافعة شعبية وسياسية تعمل على تحقيقه.