رغم تبدل الطفرات السياسية والعقائدية الإقليمية والدولية التي أصابت لبنان عبر تاريخه، فإنّ نهاية أزماته متشابهة دوماً، لما تفرضه عليه الجغرافيا السياسية من ثوابت لا تتغير وإن تغيرت الثقافات.
ففي الأمس البعيد انحاز الامير بشير الثاني لجيوش إبراهيم باشا المصري، التي زحفت للسيطرة على بلاد الشام. فأدّى هذا الانحياز إلى سقوط جبل لبنان في أتون نزاع الاخوة بين الأمير وآل جنبلاط، والذي ألهبته مصالح الدول المتنافسة للسيادة على طريق التجارة نحو الهند، فساعد الروس والانكليز السلطنة العثمانية بنحو مباشر لاسترداد سيادتها على بلاد الشام وطرد المصريين بعدما تأكدوا من شرذمتها وسقوط السلطنة تحت رحمتهم. فأشعل ريتشارد وود الانكليزي نار الثورة في لبنان وسوريا في وجه المصريين، وأرسلت روسيا قطعها البحرية بعد أن رضخ السلطان لاتفاق يكرّس نفوذها في السلطنة العثمانية ويثبّت استقلال اليونان. في حين كانت فرنسا تدعم بحنكة المصريين تمهيداً لانطلاق سباق النفوذ على شرق المتوسط مع الإنكليز بنحو أساسي، وهذا ما ثبّتته خرائط الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي لمخططات سكك الحديد الفرنسية ونقيضتها الإنكليزية التي تشبك المنطقة من بيروت تارة ومن حيفا تارة اخرى. عاد المصريون أدراجهم بعد خدمة أعداء السلطنة واعدائهم من دون ان يدروا، وتشتت بلاد الشام وأصبحت جاهزة لوضع اليد، وتطورت الثورة التي اشتعلت ضد المصريين لتتحوّل أخطر موجة عنف في جبل لبنان، بين أزلام الأمير ومعارضيه، وانتهى الأمر الى إنشاء نظام القائمقاميتين المدعوم أوروبياً والذي ساهم في تعميق الشرخ بين الدروز والموارنة، فتحوّل النزاع من وجه طبقي حضن ثورة الفلاحين الى نزاع طائفي أدى الى مجازر 1860 في جبل لبنان ودمشق، وكانت مطية لدخول جيوش أوروبية متعددة، ساهمت في الانتقال الى نظام جديد جعل من جبل لبنان متصرفية حيادية داخل السلطنة العثمانية، جنة ضريبية وواحة للمستثمرين الفرنسيين خصوصاً، وقاعدة للنفوذ الأوروبي في بوابة المشرق خاصرة الرجل المريض. وبالتزامن مع الحملة المصرية، رزحت السلطنة تحت تضخم ديونها الأجنبية، وأهمها تلك التي كانت للبنك السلطاني العثماني الذي تأسس عام 1856، والذي احتضن أموال مستثمرين أوروبيين غالبيتهم من الفرنسيين، ما لبسوا أن استعادوا اموالهم بوضع اليد على كل أصول السلطنة المالية والعقارية في المنطقة عموماً ولبنان. وترك هذا الامر لاحقاً أثره على هوية لبنان الكبير، وساهم في جعل مرفأ بيروت بوابة المشرق الفرنسية.
لا شك أننا نعيش اليوم تكراراً شبيهاً للأزمات في معطياتها الجيوسياسية وديناميتها الداخلية. فها نحن اقتصادياً نرزح تحت دينٍ عام يضع أصول الدولة اللبنانية كاملةً تحت سيف الدائنين. واجتماعياً يسعى أمراء الحرب الى استعادة الناس من ساحات ثورة 17 تشرين الى كونفدراليات الطوائف، وها هي بلاد الشام وثغورها ضحية نزاع هلال الطاقة والمياه وطريق الحرير مجدداً، وها لبنان الأمير بشير بعد ان حاول النأي بالنفس عن إعصار الربيع العربي، كما فعل في زمن حصار نابوليون لجزار عكّا، جَنح بفِعل فاعل وسقط في رمال متحركة تحكمها مصالح إيران الحيوية وولادة هلال السلام الإسرائيلي ـ العربي، فأضحى وحيداً يئنّ تحت انهيار اقتصادي ومالي ودمار بيروت على أيدي جلّاديها. وفي الوقت نفسه عجز امراء الحرب عن الاستجابة للمبادرة الفرنسية، لأنهم تخلوا علناً منذ عام 1990عن سياسة لبنان الخارجية للوصي الإقليمي. وعليه، وفي انتظار وزير الخارجية الإيراني، ليس لديهم الّا تعويم بعضهم البعض في زجليات شد العصب الطائفي لحجز المقاعد في كونفدرالية الجحيم. فلا حوار قبل الانهيار الشامل لأنه يضمن موت لبنان الكبير وولادة لبنانهم على طاولة المشرحة، فمن قتل آلاف الأبرياء من 1975 الى اليوم لا يفقه إدارة وطن الحياة والانسان الحر.
أمام هذا العقم والفساد الإنساني الداخلي، يصرّ الفرنسي الذي يفهم جيداً جينات النظام اللبناني التي ساهم في تكوينها يوماً، على مبادرته، فنراه يعيد نسخ التجارب الجيوسياسية والاقتصادية التي كتبها في القرن التاسع عشر مزاحماً الإنكليز والروس وغيرهم في حينه، هذه المرة من بوابة منافسة الاتراك والروس عبر إغراء «حزب الله» للشراكة في لبنان ممّا يكرّس حضور ايران السياسي والاقتصادي، ويشكل تعويضاً مقبولاً عند أحياء الاتفاق النووي بالشروط الأميركية المُرّة التي تُحتّم احداها التخلي عن دورها العسكري في لبنان، ما يضع «حزب الله» في مواجهة الانهيار الاقتصادي شريكاً في المسؤولية مع الزعامات التقليدية، وهذا ما حاول تجنّبه منذ اولى ايام ثورة 17 تشرين. وما تفرّد فرنسا بعدم تبنّيها أي قانون يعتبرُ «حزب الله» تنظيماً إرهابياً الى الآن، رغم الاحراج الذي تواجهه أوروبياً، سوى تأكيد لنياتها للبننة الحزب ومحاولة استيعابه، على ان تكون ضمانته للعبور الآمن نحو شراكة سياسية واقتصادية وازنة. لكن تصريحات وزير الخارجية الايراني جواد ظريف والتي ترفض تدخّل ماكرون في لبنان، ليست سوى اشارة الى ضرورة ان تفهم فرنسا انها لا تستطيع الحوار مع «حزب الله» الا عبرها وهي غير معنية الآن بلبنان، فمشروعها النووي أولوية وجودية والحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة هو الباب الوحيد لبقية الملفات. في الضفة الاخرى، يثير الحراك الفرنسي في لبنان ريبة الروس واردوغان معاً، فأي تفاهمات فرنسية ـ ايرانية قد تحاصرهم وتمهد لإتمام الشروط الأميركية التي تتخطى لبنان إلى سوريا، حيث مصالحهم الحيوية وخصوصاً إن أعطت إدارة الرئيس جو بايدن الضوء الأخضر للفرنسيين عبر تأمين مظلة عربية حاضنة من مصر أرض الكنانة والإمارات جوهرة التاج، فتُسهّل تعريب المصالح الإيرانية في المنطقة ضمن مشروع فيدراليات الشرق الأوسط الجديد، انطلاقًا من سوريا، ما يشكّل تهديداً لتركيا من باب القضية الكردية التي عاد اليها عرّاب تسليح فصائلها الانفصالية «بريت ماكغورك» الى المنطقة، من باب فريق الامن القومي لإدارة بايدن منسقاً للشرق الأوسط وشمال افريقيا.
فبعد أن نجح الروس واردوغان في إبعاد فرنسا عن أزمة ارتساخ بين اذربيجان وأرمينيا عبر تكرار سيناريو التعاون العسكري في سوريا في لحظات ترامب الاخيرة، وضمان مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول «تاناب»، إضافة إلى سكة حديد باكو – تبليسي، ها هم اليوم أمام فخ اميركي بشباك فرنسية قد تعيد الأوروبيين الى بلاد الشام وتحد من حركة ثنائي القوقاز. فدخول فرنسا من باب انقاذ لبنان اقتصادياً يؤمن نافذة أوروبية للولوج الى دمشق وتحصين منتدى غاز شرق المتوسط عبر ضم سوريا ولبنان اليه. فالفرنسيون يدركون ان أي فراغ هو فرصة لتمدد اردوغان من بوابة طرابلس لبنان واطلالة للروس من باب المبادرات السياسية لاحتضانٍ لاحق. الى ذلك كله يتوجّس الروس والايرانيون واردوغان من ربيع جديد للثورات الملونة، والتي قد تطاول موسكو وإسطنبول وطهران هذه المرة، خصوصاً بعد ان اختار بايدن السفير السابق في روسيا ويليم بيرنز ليكون مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الـ CIA.
أمام هذا الاشتباك الإقليمي والدولي والتحلل والعقم الداخلي، وفي حضرة هذه اللحظة الوجودية للبنان، الشبيهة جداً بالظروف التي ساهمت في ولادة متصرفية لبنان الحيادية ضمن السلطنة العثمانية، تسير بكركي بثبات وبدعم فاتيكاني بالدعوة الى مؤتمر دولي في الأمم المتحدة لإنقاذ لبنان من كل اشتباكات المحاور وضغوطها المدمرة، لأنها أجهزت عليه إنساناً وهوية ورسالة. ولا تحمل بكركي هذه الدعوة الا للحفاظ على لبنان الرسالة وطناً للجميع من دون تمييز. فبعد انهيار كل شيء وإفلاس البلد وسرقة ثروات الناس وقتلهم آمنين في بيوتهم، تجزم بكركي بأنّ هذا المؤتمر هو المعجزة المنتظرة والتي تنقذ جميع الأطراف في لبنان، بمن فيهم لبنانيّو «حزب الله» من النار الإقليمية التي ستلتهم كل ما تبقى.
فمن يستطيع في لبنان أن يتحمل ارتدادات الفالق السوري الذي تتحرك صفائحه مجدداً في كباش المصالح في الغرف السوداء؟
من يستطيع أن يتلقف التداعيات في بيروت ان اشتعلت الثورة الخضراء في طهران مجدداً؟
من يستطيع ان يصمد ان فاز في إسرائيل وإيران الصقور في الانتخابات وأقفلوا أبواب الحوار في المنطقة؟
من يستطيع ان يحمي ثروة لبنان النفطية ان بقي الترسيم بلا حدود؟
من يستطيع ان يقف امام ثورة الجياع ان سقطت ورقة التين الأخيرة من يد مصرف لبنان؟
من لديه القدرة أن يعترف بمسؤوليته، وان يتحرر من ارتباطاته لإنقاذ الناس من الجريمة الكبرى بأن يصبحوا مواطنين بلا وطن، ينجو هو وأهل بيته.
إنها اللحظات الأخيرة والفرصة الوحيدة لعدم الدخول إلى جهنم بعدما فتحت بابها في 4 آب. فمن له البصيرة فليسمع، ومن له خشية وحب الله في قلبه، فلينتفض ويتحرر ويدخل باب الخلاص.