العهد «القوي» وقد مرّت على وجوده في الرئاسة الأولى ما يتجاوز الأربع سنوات بعد أن أطلّت في الأفق المنظور، خواتيم أيام عهدوية طويلة، لم يظهر منها أية إطلالات معطاءة ونتائج ملموسة فكان طبيعيا أن يسجَّل على العهد القوي تراجعه الشعبي إلى حدود ملحوظة، خاصة إذا ما احتسبنا المِن والِإلى في الإطارات اللبنانية عموما، والإطار المسيحي على وجه الخصوص، لنجد أنّ التيار الوطني، رئاسة وحزبا وقيادة، قد بات في عزلة حصرت حدود علاقاته التفصيلية، بحزب الله بكل مواقعه الداخلية والإقليمية، وأن الأجواء السنّية عموما، تناصبه الخصومة من خلال موقعها القيادي المتمثل بالرئيس سعد الحريري وجذوره الممتدة إلى الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتيار المستقبل، إضافة إلى كونه مدعوما برؤساء الوزارة السابقين. وأن الأجواء المسيحية، الحزبي منها والاجتماعي والروحي، قد حدّدت توجهاتها وانتماءاتها. في الخطوط المواجهة والمصادمة وتتضاعف وضعية الإستغراب كيف أن حزبا تآكلته أوضاعه السلبية، يستمر مباطحا في موقع القيادة وتتكثف وضعية الاستغراب، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن من يمسك بالمؤسسات السياسية في هذا البلد ويتحكم بمقاليدها وأسسها ومفاتيح الحركة فيها، هو حزب الله الشريك المرتاح لوضعيته مع العهد وتفرعاته وحرصه على استبقاء تحالفه مع غطاء مسيحي، حتى ولو تضاءلت الحشود الشعبية التي كانت له، كما أننا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شخصية الرئيس عون، الحادة والمواجِهة والمتشددة في فكرها وممارستها وأساليبها في الصدام والمجابهة، ونجاحها في استقطاب مجموعات من المسيحيين المغالين في الاندفاع في إطارات مماثلة، ولنا في التصريحات المنطلقة من أوساطهم في هذه الايام شديدة الأخطار والحساسية والاندفاعات الشعبية نحو مهاوي الافتقار إلى أدنى متطلبات الحياة والعيش الكريم، خير دليل على أحوال السوء والتفلت القائم والمحتمل بصورة متكاملة مع درجات التراجع والانهيار والسقوط الشديد في مهاوي أخطار قد تودي لا سمح الله، بالبلاد وأهلها إلى النتائج التي يلمّح إليها في هذه الأيام العصيبة مسؤولون من الغرب والشرق، ويبعثون بكبار المندوبين لمحاولة الإمساك بأيادي اللبنانيين، لمنعهم من الإنفلات الكامل إلى هاوية لا خلاص منها، كائنا ما كانت المحاولات والجهود الدولية والعربية، مخلصة في محاولاتها لدفعهم إلى التمكّن من تمرير أية محاولة إنقاذ، إن لم يواكبها تكاتف اللبنانيين وتعاضدهم.
وبعد، تضاعفت وتكثفت في هذه الأيام، كميات التصريحات المتصارعة والمتضاربة والمتعادية، شاملة جميع الأطراف والمواقع، ودافعة اللبنانيين المنغمسين في مقادير هائلة من الاستفزازات والتحديات الحياتية والمعيشية الحادة، إلى الوقوف الدائم على أهبة الاستعداد للغوص غير المحدود في لجج المخاطر الوطنية والوجودية شديدة القساوة، ما يهمنا منها في هذا المجال، تصريحان متميزان صدرا مؤخرا عن قمتين روحيتين أساسيتين: تصريح متجدد لغبطة البطريرك الراعي، أشار فيه إلى خيبة مستمرة لآمال اللبنانيين بالإنقاذ والخلاص، واشارة واضحة إلى التدقيق الجنائي الذي يسعى إليه العهد وإلى تحقيقه في ما تبقى من نهايات مدته، وهناك إجماع على أنه لن يكون تحقيقه ممكنا قبل تأليف حكومة إنقاذية تمسك بمقاليد الإصلاح الشامل المطلوب. إضافة إلى تصريح آخر صدر عن سماحة المفتي عبد اللطيف دريان في رسالته الرمضانية، ونقف عنده بوجه خاص، لأنه مستجدٌّ يستحق المعاينة والإشادة والتأييد، فلقد مرّت بنا الأوقات والمناسبات، ودار الإفتاء، مكتفية بالمواقف المتمسكة بالحرص والوقوف على شيء من الانكفاء عن التصريحات البعيدة عن صلب المشاعر والمواقف المتأججة لدى طائفتها، وهي وضعية لئن كانت تمثل الحرص السني والرغبة في الامتناع عن تأجيج الأوضاع الملتهبة في البلاد منعا للوقوع في ما لا تحمد عقباه، إلاّ أن مستجدات الأوضاع وخطورة التوقعات ومآسي الأوضاع الإجتماعية والحياتية، خاصة ما هو مستجد منها، ونحن في مطلع شهر رمضان الفضيل كانت مناسبة، دفعت بسماحته في رسالته الرمضانية إلى الإشارة إلى أن البلاد هي في هذه الظروف العصيبة بالذات، في أشدّ الحاجة إلى سلطة تنفيذية، تكون مسؤولة أمام مجلس النواب الذي كلّف رئيسَها بتشكيل الوزارة. نريد حكومة نستطيع التوجه إليها… ليست البلاد في أزمة دستورية بل هي ضحية الاستئثار والانهيار والارتهان للمحاور، والتدمير المتعمد للمؤسسات، والاعتداء على عيش المواطنين واستقرارهم وأمنهم. البلد في خطر داهم، ويعيش قمة الانقسام والتشرذم والفوضى، وكل يوم تأخير في ولادة الحكومة يشكل خسارة للوطن والمواطن. هناك أيادٍ خبيثة تعمل على عرقلة الجهود العربية الشقيقة المشكورة، وإفشال المبادرة الفرنسية الساعية إلى تجسيد الحلول الإنقاذية وهي تحاول من منطلقات خبثها القيام بعملية ابتزاز سياسي لا مثيل له، وبالكيديات والعنتريات لا يبنى لبنان.
هذا غيض من فيض مما ورد في رسالة صاحب السماحة وهو صوت يطل بهذه الصورة الجهورية إطلالة متميزة جديدة الوقع والصدى ومتآلفة مع جموع الأصوات الوطنية والروحية المطالبة برفع الأذى والمظالم والأخطار عن صدور اللبنانيين وأفواههم التي طاولها الجوع، وحياتهم التي باتت أبعد ما تكون عن مواقع العيش الكريم.
رغم كل المظاهر المنكفئة، لبنان يتحفَّز للنهوض، كائناً ما كانت الموانع والمعيقات. قد ينكفئ المواطن عن مجاراة مصالحه، ولكن على الإطلاق، لن يكون مبتعدا عن المطالبة بلقمة عيشيه وحياة أطفاله.