ليس هناك من مصلحة لأحد بإعادة إنتاج مشاهد الحرب الأهليّة وتمثيلها مجدداً مع ما تشكله من خطر محدق على الكيان والدولة. خروج الأمور عن السيطرة ينذر بعواقب وخيمة ويجعل إمكانيّات ضبط الأمور مسألة تقارب المستحيلات لا سيّما أنّه سوف يتوفر بشكل دائم في الخارج من يغذّي النزاعات في الداخل ويؤججها ويذهب بها إلى أبعد المستويات. من سيدفع الثمن في هذه الحالة هو الشعب اللبناني مرّة أخرى.
لقد كان لبنان منذ عقود ساحة لتصفية الصراعات الاقليميّة التي كانت تفجّر نزاعاتها على أرضه، وكان شعار غسان تويني الشهير: “حرب الآخرين على أرضنا” يعكس جانباً كبيراً من الحقيقة. صحيحٌ أن الحرب خيضت بأدوات محليّة وفق شعارات ومشاريع متناقضة ولكنها عكست أيضاً لعبة دوليّة كبيرة دفع لبنان واللبنانيون الأثمان الباهظة خلالها وتكبدوا خسائر جمّة لا تزال بعض مفاعيلها ماثلة أمامنا اليوم.
في لحظات تلبّد الغيوم الاقليميّة والدوليّة ومراحل إشتقاق مساراتٍ سياسيّة جديدة لا تزال تباشيرها الأولى قيد التشكل (العودة إلى مفاوضات فيينا في الملف النووي الإيراني بدون أي إشتراطات مسبقة من طهران، المباحثات السعوديّة- الإيرانيّة، الانفتاح الأردني على النظام السوري، التطبيع العربي- الاسرائيلي وسواها من الخطوات السياسيّة التي قد تفضي إلى خلط أوراق وتحوّلات كبرى في المنطقة)؛ لا مفر من الترقب والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي.
مسؤوليّة وقف الانهيار الإقتصادي والاجتماعي يفترض أن تبقى في صدارة الأولويّات كي لا نشهد المزيد من الإضمحلال والتلاشي في دور الدولة وهيبتها مع ما يعنيه ذلك من تدهور في الأمن والإقتصاد وكل نواحي المجتمع، توازياً مع تمدّد نفوذ قوى الأمر الواقع وسيطرتها على الأرض وفرض معادلات جديدة تكرّس الاختلال القائم في موازين القوى وتؤبده.
من هنا، الحاجة ملحة لأن تستعيد الحكومة دورها في أسرع وقت ممكن بعيداً عن أي حساباتٍ أخرى كي لا تتيح مجالات الانهيار المتعاظم مساحات جديدة للتوسع والتمدد. لقد إستغرق تأليف هذه الحكومة نحو 13 شهراً تعطلت في خلالها كل مرافق الحياة العامة وتدهورت الأوضاع الإقتصاديّة والإجتماعيّة والمعيشيّة بشكل غير مسبوق وزادت نسب الفقر وإندثرت الطبقة الوسطى بشكل شبه تام.
الحلول والمخارج ممكن توفيرها بشكل دائم عندما تتشكل الارادة السياسيّة. المشكلة الدائمة أن أي حلول يتم إستنباطها لا تتكئ على الدستور والقوانين بل على ذاك الأسلوب المسمّى “الطريقة اللبنانيّة” وهي طريقة مبتكرة تبدع في التلاعب على الكلمات وتستند إلى مخارج لفظيّة على قاعدة المثل الشعبي اللبناني العتيق: “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”، وقاعدة: “لا غالب ولا مغلوب”.
ألا يمكن التوفيق بين مقتضيات الوفاق اللبناني التي تحكمها عناصر حساسة ودقيقة وتوازنات صعبة وحرجة، وبين الدستور الذي يحدّد بشكل واضح قواعد فصل السلطات وتعاونها وتوازنها؟. ثمّة سلطات لا يمكن لها أن تتدخل بشؤون بعضها البعض أو أن تتخذ قراراتٍ عن بعضها البعض.
لا مفر من الاعتراف بأن جانباً أساسيّاً من أوجه الأزمة اللبنانيّة المركبة والمعقدة، إضافة إلى اللوثة الطائفيّة والمذهبيّة التي تدمّر كل مرتكزات المساواة والعدالة في المجتمع، هو عدم قيام السلطات الثلاث التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة بأدوارها كاملة بشكل مستقل ومتوازن.
إن سطوة السلطة التنفيذيّة على السلطة القضائيّة، على سبيل المثال، في التشكيلات القضائيّة والتعيينات والمناقلات وسواها تُعتبر عائقاً أساسيّاً أمام قيام السلطة القضائيّة المستقلة المنتظرة والتي هي من المداميك الأساسيّة لقيام الدولة المرتجاة.
أيّام صعبة أمام لبنان. ألم تكن كذلك دوماً؟