لم يعد البكاء فوق رأس الليرة ينفع كلما إرتفع سعر الدولار وتجاوز عتبة جديدة في سلّم الإرتفاعات المضطردة التي يُسجلها منذ أكثر من سنتين، دون أن تنفع في تجميدها كل الخطوات التي إتخذها مصرف لبنان، بما فيها إنشاء منصة « صرافة».
إستمرار الإنحدار في قيمة الليرة ليس مرده إقتصادياً أو مالياً بحتاً، بقدر ما أصبح نتيجة طبيعية لفشل المحاولات الرسمية في إدارة أخطر الأزمات التي ضربت لبنان، وما يرافق هذا الفشل من سياسات التعطيل لعمل المؤسسات الدستورية، وخاصة مجلس الوزراء المناط به مجتمعاً صلاحيات ومسؤوليات السلطة التنفيذية.
في بداية مسلسل الإنهيارات بقي البلد ثلاثة أشهر بلا حكومة، إثر إستقالة الرئيس سعد الحريري، بعد الخلاف مع رئيس الجمهورية وفريقه إثر إندلاع ثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩، وإنهيار التسوية الملتبسة بين الحريري وباسيل التي أوصلت العماد عون إلى القصر الجمهوري.
تم تأليف حكومة حسان دياب من عناصر لا تتمتع بالحد الأدنى من الخبرة أو الكفاءة المالية أو الإقتصادية، وكان قرار عدم دفع إستحقاقات اليوروبوند بمثابة الكارثة التي أطاحت بالثقة الدولية بالوضع اللبناني، وأطلقت العنان لرحلة الدولار بالإرتفاع المستمر منذ تلك التاريخ.
إستقالت حكومة حسان دياب بعد الإنفجار الزلزالي في مرفأ بيروت، وبقي الوطن المنكوب بلا حكومة ١٤ شهراً، وصل خلالها البلد وناسه إلى جهنم كما توقع رئيس الجمهورية، لأن الخلافات الأنانية وتضارب المصالح والأجندات بين أطراف الفريق الحاكم عطلت آلية العمل الحكومي، في وقت كان فيه البلد بأمسّ الحاجة إلى سلطة تنفيذية قادرة على وقف الإنحدار، على الأقل، لأن الحلول الجذرية للإنهيارات أصبحت أكبر من قدرة الطقم الحاكم.
سادت أجواء من التفاؤل إثر تشكيل الحكومة الميقاتية، ولكن هذه المناخات سرعان ما تبددت، بعد تعطيل جلسات مجلس الوزراء قبل مرور شهر على ولادة هذه الحكومة، التي لم يشفع لها أنها إقتصرت على مكونات أهل السلطة الحالية. فكانت الطامة الكبرى أن خطط وقف الإنحدار لم تبصر النور، والمعالجات المطلوبة لمشكلة الكهرباء وأزمات المحروقات فقدت زخمها، ووقعت الليرة مرة أخرى ضحية العجز الرسمي من جهة، والخلافات السياسية يين أبناء الصف الواحد، الأمر الذي أخلى الساحة أمام الدولار الذي يسجل حالياً أرقاماً قياسية في الإرتفاع، ويتجاوز السقوف الوهمية، الواحد تلو الآخر، فيما تزداد الأكثرية الساحقة من اللبنانيين فقراً وقهراً، والشلل الحكومي يتفاقم، والعجز الرسمي يتضاعف، دون أدنى إحساس بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق أصحاب الحل والربط، الذين يبدون وكأنهم يفتقدون المشاعر الوطنية اللازمة للتحرك بجدية وسرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
سيستمر عدّاد الدولار متفلتاً من أية ضوابط، طالما بقيت الحكومة أسيرة التعطيل القسري، بإنتظار إيجاد «مخرج ما» لوضعية القاضي طارق بيطار في تحقيقات المرفأ.
وسيبقى العجز الرسمي هو المهيمن على المعالجات المطلوبة، طالما بقيت المصالح المتضاربة بين مكونات السلطة تحتل مركز الأولوية المطلقة فوق أي إعتبار للمضاعفات الأخرى، بما فيها هذا الإنهيار الجديد في قيمة الليرة، وتزايد نسبة سقوط اللبنانيين تحت خط الفقر، والذي إعترف رئيس الجمهورية بوصوله إلى معدل ٨٢ بالمئة من الشعب اللبناني.
كل ذلك والأزمة مع دول مجلس التعاون الخليجي تتزايد حماوتها يوماً بعد يوم، بسبب تجاهل لبنان لمخاطر تطور هذه الأزمة من جهة، وبعد الخطوات الخليجية الأخيرة التي طاولت «التشدد» في منح التأشيرات للبنانيين من جهة أخرى، والذي يعني إمتناع مخفف عن إعطاء اللبنانيين تأشيرات الدخول إلى الدول الخليجية، بالسهولة التي كانت تتم سابقاً.
ولا أحد يعرف المعايير التي إستند عليها معارضو إستقالة أو إقالة الوزير قرداحي، والتي يبدو أنها أهم من مصالح اللبنانيين مجتمعين، فضلاً عن الأضرار الإقتصادية والمالية التي تسببها للبلد الذي يفتقد إلى الدعم الخليجي المعتاد، والذي كان بمثابة خشبة الإنقاذ للبنان واللبنانيين إبان الملمات والإعتداءات الإسرائيلية، وآخرها عدوان تموز ٢٠٠٦، التي ساهمت الدول الخليجية بإعادة أعمار أكثر من ٩٠ بالمئة من المدن والأحياء والقرى التي دمرها القصف الإسرائيلي الوحشي على الأهداف المدنية، وخاصة الضاحية الجنوبية.
لقد علمتنا التجارب أن الذهاب بعيداً في أساليب الإستعداء لمحور على حساب محور آخر لا يفيد لبنان، سيما وأن حالة العداء بين المحاور الإقليمية غالباً ما تنتهي بمصالحات لا تأخذ في الإعتبار مصالح الدول الصغيرة، التي تدفع أثمان الصراعات مضاعفة: مرة إبان فترة التصادمات المحتدمة، وأخرى عندما تتم المصالحات، ولا يلتفت أحد إلى مصالح الدول التي كانت تدور في فلك هذا الطرف أو ذاك.
لبنان فَقَد قدرته على تحمل المزيد تحت شعار الصمود..، فهل بينكم عاقل يقول كفى، ولنذهب إلى طريق الإنقاذ قبل أن يتحول إلى مستحيل جديد في المعادلة الوطنية؟