IMLebanon

هذا ما يريده الناس

 

تعبِّر الناس في الصالونات السياسية عن سخطها الكبير من واقعها المأسوي في ظلّ غياب كل مقومات الحياة الكريمة، وفي موازاة شكواها المستمرة من انقطاع الخدمات الضرورية والبدائية، فقد بدأت تجاهر بمواقف لم تكن تعلنها سابقًا، فهل من يسمع ما تقوله الناس؟

هناك من لا يقيم وزنًا للناس على رغم تدفقها إلى الشوارع في ثورتين دلّتا إلى أن الرأي العام اللبناني يثور عندما يفقد صبره، وهذا ما حصل في 14 آذار 2005 و 17 تشرين 2019، حيث أظهر بأنّه شعب حي خلافًا للصورة التي أُلصقت به بأنّه لا يكترث لكل ما يدور حوله.

 

وما لا يُدركه البعض او يتجاهله انّ الناس حاولت في ثورتيها تغيير واقعها من ضمن النظام الحالي او تحت سقفه، وكان لديها قناعة بأنّ التغيير ممكن من خلال إخراج الجيش السوري في الثورة الأولى، ولكنها وجدت انّ هناك من تكفّل مواصلة دور النظام السوري بمنع قيام دولة فعلية في لبنان، فاستمرت الأزمة وتفاقمت وتدهورت الأوضاع، خصوصًا انّ الفريق المسلّح يرفض تسليم سلاحه، كما انّ نزع هذا السلاح بالقوة غير ممكن، وبالتالي انتهت الثورة على مضض وتبدّدت الآمال بإمكانية إخراج البلد من أزمته.

 

ومع تفاقم الأوضاع وغياب الحلول، وجدت الناس انّه لا بدّ من ثورة ثانية من داخل النظام أملًا بسلطة نظيفة وشفّافة تُحسن إدارة البلاد، فتوحّدت الساحات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وما بينهما الوسط، في مشهدية شعبية أعادت توحيد اللبنانيين حول هموم مشتركة ومطالب واحدة، وأظهرت انّ هذا الشعب حيّ بكل ما للكلمة من معنى، ولكن النتائج أعادت تخييب الآمال وبدّدت الرهان على التغيير بسبب منع فريق السلاح نفسه فرصة قيام دولة فعلية، فسقطت الثورة الثانية على غرار سقوط الأولى.

 

وهناك شريحة واسعة من اللبنانيين بدأت تسأل عن جدوى قيام ثورة ثالثة طالما انّ نتيجتها ستكون معروفة ومحسومة سلفًا، وهي إحداث تغيير شكلي بالحدّ الأقصى من دون ملامسة جوهر الأزمة اللبنانية المتمثِّل بوجود فريق مسلّح يُصادر قرار الدولة الاستراتيجي، وقد تولّدت قناعة بأنّ ثورة سلمية ستبقى عاجزة عن مواجهة تنظيم مسلّح، وستكون الثالثة ثابتة بالفشل نفسه، وهذا ما جعلها تيأس من التغيير في ظلّ المعطيات نفسها. ولكن هذا اليأس لا يعني الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع، إنما التفكير بطريقة مواجهة مختلفة، ومن المفيد والضروري تسليط الضوء على ما تضجّ به الصالونات وأحاديث الناس في الآونة الأخيرة وتساؤلاتها المباشرة والجريئة:

 

أولًا، ما قيمة التعايش، الذي نتمسّك به إلى أبعد الحدود، إذا كانت فئة من اللبنانيين لا تحترم موجبات هذا التعايش الذي من أولى شروطه المساواة والعدالة واحترام الآخر والاتفاق على إدارة مشتركة للبلد لا يتفرّد بها أحد ويأخذ الفئات الأخرى غصبًا عنها إلى خيارات مفروضة عليها ولا تريدها؟

 

ثانيًا، ما قيمة النظام السياسي إذا كان لا يُطبّق، وما الفائدة من مواصلة التمسُّك بنظام شكلي لا أمل بتطبيقه، ولا بل أصبح التمسُّك به يُفيد الفريق المسلّح الذي يُمارس دوره غير اللبناني وسياساته الانقلابية على الدستور متلطيًا بهذا النظام، وهل من يظنّ أساسًا او يتوهّم بإمكانية تطبيقه؟

 

ثالثًا، ما قيمة الإصرار على شعارات جميلة من قبيل «وطن الرسالة» و»لبنان النموذج» و»التجربة الفريدة»، إذا كانت الناس جائعة وفقيرة ومذلولة وأضحى طموحها الهجرة، وما قيمة شعارات غير قابلة للتطبيق، ولا بل ما يُطبّق هو عكسها تماماً؟

 

رابعًا، ما قيمة نهائية وطن في حال تحوّل إلى مساحة غير قابلة للحياة بسبب عدم الاستقرار الدائم والفوضى والحروب الساخنة والباردة، وهل قدر الناس التي تحيا مرة واحدة، العيش في دوامة من الصراعات التي لا تنتهي، أم البحث عن الحياة التي تجلب لها الاستقرار والطمأنينة والأمن والأمان وفضاوة البال؟

 

خامسًا، ما قيمة دولة صوَرية ممنوع عليها القيام بدورها وتحمُّل مسؤولياتها وتحولّت إلى أداة للفريق المسلّح يستخدمها في مواجهة أخصامه، وتشكّل غطاءً لسلاحه ودوره، وهل من يظنّ انّ العبور إلى الدولة الفعلية ممكنًا في ظل دويلة أقوى منها؟

 

سادسًا، ما قيمة الرهان على الوقت إذا كان عامل الوقت تحوّل إلى استراتيجية يستخدمها الفريق المسلّح تحقيقًا لمشروعه من خلال فرض وقائع ديموغرافية جديدة تؤدي إلى تغيير هوية لبنان، وألم تُلاحظ القوى الخصمة لـ»حزب الله» انّ هذا العامل يعمل لمصلحته ضدّها، وانّ وضع لبنان والشعب اللبناني اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه أمس؟

 

سابعًا، ما قيمة مواصلة سياسة الكذب والتكاذب التي تخدم سياسة القضم التي يمارسها «حزب الله» بدلًا من المجاهرة بالحقيقة والإعلان صراحة انّ الوضع لم يعد يُطاق، وانّ الهوية اللبنانية بخطر، وانّ المبادرة لقلب الطاولة مطلوبة أكثر من أي يوم مضى؟

 

ثامنًا، ما قيمة بلد موحّد إذا كانت وحدته أصبحت تشكّل خطرًا على بعض مجموعاته وعلى دور البلد برمته. ففي الوحدة مبدئيًا قوة لجميع أبناء الوطن وليس قوة لفئة على حساب الفئات الأخرى، وعندما تتحول الوحدة الجغرافية إلى خطر وجودي على بعض المجموعات وتحوِّل الوطن إلى مساحة غير قابلة للعيش، يجب إنهاء هذه الوحدة ووضع كل الإمكانات اللازمة للفصل الجغرافي عن البيئة التي لا تريد الالتزام بقواعد الشراكة وتصرّ على التفرُّد والاستقواء، لأنّ الضرر الذي يمكن وقفه اليوم من خلال الفصل الجغرافي لا يعود ينفع غدًا مع مواصلة الفريق الآخر سياسة القضم التي يعتمدها؟

 

تاسعًا، ما قيمة الشعار الذي رفعه الرئيس الشهيد بشير الجميل الـ10452 كرمزية لمساحة لبنان الجغرافية إذا كانت المجموعات التي تتشارك في هذه المساحة التي تمّ تثبيتها في إعلان «لبنان الكبير» في العام 1920 لم تتمكّن، للأسباب المعلومة وبعيدًا من تحميل المسؤوليات، من إنشاء وطن ودولة وقيم ومؤسسات، وإذا كان هناك من يريد ان يواصل المحاولة والتجربة، فهذا خياره منفردًا ولكن ليس على حساب الشريحة الأوسع من الناس التي وصلت إلى قناعة بأنّ هذا البلد بشكله الحالي غير قابل للعيش؟

 

عاشرًا، ما قيمة الجغرافيا إذا تحولت إلى مساحة موت، ولماذا لا يُصار إلى اقتطاعها لتحويل قسم منها إلى مساحة حياة، خصوصًا انّه لا يوجد في هذا الكون ما هو أسمى وأرفع من الإنسان، هذا الإنسان الذي يأتي إلى الحياة مرة واحدة، فلماذا عليه العيش حياة من الجحيم والقتل والحروب إذا كان قادرًا على فك الارتباط الجغرافي مع الجماعة المصرّة على الحروب والتي يبدأ الاختلاف معها من النظرة إلى الله ولا ينتهي بالنظرة إلى الإنسان؟

 

وتقول الناس بالفمّ الملآن ثلاث جمل أساسية:

 

الجملة الأولى، كفا تكاذبًا، لم نعد نريد ان نسمع باتفاق الطائف ونهائية لبنان وعروبته وسيادته واستقلاله و»وطن الرسالة» والعيش معًا والتجربة الفريدة، وكل هذه الشعارات الرنانة التي إما هي غير قابلة للتطبيق، وإما يُمارس عكسها. فما هو هذا العيش المشترك الذي سقط منذ أكثر من خمسة عقود ولم يعُد بعد، ويبدو انّه ضلّ طريقه إلى الأبد؟

 

الجملة الثانية، لا نريد دولة قوية ولا دولة ضعيفة، وجلّ ما نريده دولة طبيعية نعيش فيها بالطريقة التي نرغب تحت سقف القانون ونمارس نمط العيش الذي نحبّ، فالحياة جميلة وقصيرة، وعقيدتنا الوحيدة هي أولوية عيشنا بحرية وبحبوحة وازدهار واستقرار بعيدًا من عقائد قديمة أساءت إلى الإنسان وصورته ودوره في هذا العالم.

 

الجملة الثالثة، يجب الإقرار انّ هناك شريحة في لبنان لها حيثيتها ومعتقداتها الإلهية والإنسانية والثقافية والفكرية والسياسية التي تتعارض جذريًا مع معتقدات الشرائح الأخرى، ويستحيل بناء وطن واحد ودولة واحدة لمجموعتين لا جامع بينهما، ومن غير المنطقي ولا المقبول ان تُخضع شريحة الشرائح الأخرى. ولذلك، ألم يحن الوقت للمطالبة بالتقسيم والعمل على تهيئة ظروف تحقيقه في أسرع وقت ممكن؟

 

فهل من يستمع إلى ما تقوله الناس؟ وهل من يجرؤ على استفتاء الناس التي لم تعد ترى حلًا سوى في التقسيم؟ وهل من يقرّ بأنّ من أوصل الناس إلى هذا الاحتمال هي ممارسته التي تغيِّب الدولة وحولّت البلد إلى ساحة وحالت دون تطبيق الدستور ونسفت الشراكة وبدلّت في نمط عيش اللبنانيين وسرقت جنى عمرهم وبدّدت آمالهم في إحياء تجربة لبنان الكبير وجعلت أحلامهم في لبنان الصغير؟