واجه لبنان منذ العام 1969 ثلاث أزمات كبرى، أدّت إلى تجميد مفعول الدولة اللبنانية: الثورة الفلسطينية، الاحتلال السوري والثورة الإيرانية. فهل هذه الأزمات متشابهة، وهل معالجتها تكون بالطريقة نفسها؟
لا تختلف انعكاسات الأزمات الثلاث الفلسطينية والسورية والإيرانية على واقع تغييب الدولة في لبنان، فالنتيجة نفسها مع فروقات تتعلّق بطبيعة كل مرحلة من هذه المراحل، التي المشترك فيها، تعليق العمل بالدستور وتشويه ممارسته وتحويل الوطن إلى ساحة، ولكن المختلف فيها انّ الثورة الفلسطينية مكونة من جسم فلسطيني مسلّح يحظى بتأييد بيئة لبنانية معينة، وكان يكفي ترحيل هذا الجسم لتنتهي هذه الأزمة، والاحتلال السوري مكوّن من جيش سوري ويحظى باحتضان بيئة لبنانية، وكان يكفي خروجه من لبنان لإنهاء احتلاله، فيما الثورة الإيرانية مكوِّنة من جسم لبناني يستحيل ترحيله أو إخراجه من لبنان.
ويجب التأكيد أولاً بأنّ المواجهة كانت دائماً لبنانية – لبنانية، وشعار “حروب الآخرين” الهدف منه تجميل الواقع الانقسامي، والقول انّ اللبنانيين باستطاعتهم التعايش والتآلف، ولكن الخارج يمنعهم من ذلك، فيما الحقيقة مغايرة تماماً، وهي انّ الداخل غير المتفق ولا المنسجم في إطار دولة واحدة، يستدعي تدخّلات الخارج من أجل قلب موازين الداخل لمصلحة مشروعه السياسي وقناعاته الفكرية التي تتناقض مع التوجُّه المؤسِّس للبنان.
ويجب التأكيد ثانياً، انّه لا الثورة الفلسطينية كانت نجحت بالتغلغل في النسيج اللبناني لولا تأييد فئة لبنانية لهذه الثورة، ولا الجيش السوري كان نجح في ان يكون له موطئ قدم في لبنان لولا تأييد فئة لبنانية لهذا الجيش، ولكن هذه الفئة اللبنانية المؤيّدة سياسياً وعقائدياً للثورة والبعث، حافظت على مسافة، ولو صغيرة، من هذين المكونين، وهذه المسافة بالذات أفسحت في المجال أمام حوار وتقارب وتسوية.
فالفريق اللبناني الخصم للفريق اللبناني الآخر المؤيّد للمشروعين الفلسطيني والسوري، اصطدم عسكرياً وسياسياً بشكل أساسي بالمنظمات الفلسطينية والجيش السوري. والفئة اللبنانية المؤيّدة للمشروعين، دفعت باتجاه تعديلات دستورية تشكّل مدخلاً لإنهاء الحرب اللبنانية، ولم تجد نفسها معنية في مطالبة النظام السوري بتنفيذ ما اتُفق عليه في اتفاق الطائف، وهذا للدلالة فقط بأنّ جوهر الأزمة في لبنان لبناني بامتياز، لأنّه لو كان هناك حرص لبناني على قيام دولة وتطبيق دستور وسلاح واحد، لكانت انتهت هذه الأزمة منذ زمن بعيد، ولكن هذا الحرص، ويا للأسف، غير موجود في ظلّ التبدية المستمرة لفئة من اللبنانيين لمشاريع خارجية على حساب المشروع اللبناني.
وهناك من توهّم من اللبنانيين بأنّ خروج الجيش السوري من لبنان يُنهي الأزمة اللبنانية، ولكن هذا الخروج فتح الباب على أزمة أعمق من الأزمتين الفلسطينية والسورية، لأنّه كان يمكن التذرُّع بأنّ الوجود الفلسطيني هو وجود خارجي وينتهي مع رحيله، وانّ الوجود السوري هو وجود خارجي وينتهي مع رحيله، ولكن كيف يمكن ان ينتهي وجود “حزب الله”؟
فلا يمكن موضوعياً ومنطقياً المطالبة بترحيل “حزب الله” من لبنان، شأنه شأن المنظمات الفلسطينية والجيش السوري. ولكن دور الحزب لا يختلف في الجوهر والمضمون عن الدورين الفلسطيني والسوري، في منع قيام دولة وإبقاء لبنان ساحة صراعات ومساحة غير مستقرة، والاختلاف هو في شكل الجسم فقط لا غير، إلّا انّ النتيجة نفسها.
وعلى رغم تأييد شريحة لبنانية واسعة للثورة الفلسطينية، والدور السوري في لبنان، إلّا انّ رهان الشريحة الأخرى كان على إخراج الفلسطينيين والسوريين من المعادلة السياسية اللبنانية. فهل يمكن ان ينسحب الرهان على “حزب الله” الذي هو ذراع عسكرية إيرانية وتشكّل الامتداد الأوّل للثورة الإيرانية باعتراف طهران نفسها مراراً وتكراراً، وآخرها على لسان المرشد علي خامنئي الذي قال انّ “امتداد الثورة الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان أصبح فاعلاً، وقد تمّ إنجاز عمل كبير هو هزيمة أميركا في البلدان الثلاثة”؟
وعلى رغم اختلاف المطالبة بين إخراج المنظمات الفلسلطينية والجيش السوري، وبين المطالبة بنزع سلاح “حزب الله” لا إخراجه من لبنان، باعتبار انّ هويته لبنانية، إلّا انّه نتاج الثورة الإيرانية ومشروعه إيراني ويتناقض مع المشروع اللبناني، ويستحيل الوصول معه إلى أي تسوية بشروط الدولة، لأنّه جزء من حالة إيرانية دينية وسياسية، فإما ان تنهزم هذه الحالة وتسلِّم بشروط اللبنانيين، وإما انّ الصراع سيبقى مستمراً.
فإخراج لبنان من أزمته بحلّتها الإيرانية على إثر خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 غير ممكنة سوى في الحالات التالية: إنهيار النظام الإيراني، وهو أمر طويل الأمد، على رغم انّ الثورة النسائية أكّدت مجدداً انّ قوة النظام الإيراني ليست بالتفاف شعبه حوله، إنما بقوته على إجهاض أي تغيير ديموقراطي بالقوة والعنف.
الحالة الثانية، سقوط النظام السوري ونشوء نظام معادٍ لإيران، فيصبح “حزب الله” في وضعية الساقط عسكرياً، ولكن لا مؤشرات إلى انّ الوضع السوري ينحو باتجاه نظام من هذا القبيل.
الحالة الثالثة، ان “يشمِّر” المجتمع الدولي على سواعده ويقرِّر تنفيذ القرارات الدولية واتفاق الطائف وتحييد لبنان بالقوة، ولكن هذا المجتمع ليس في هذا الوارد أقلّه في هذه المرحلة.
الحالة الرابعة، ان ينزلق الوضع في لبنان إلى حرب وخطوط تماس على غرار الحرب الأهلية، ولكن أحداً من اللبنانيين ليس في هذا الوارد.
الحالة الخامسة، ان يتعطّل النظام السياسي بالكامل ويتواصل الانهيار فصولاً ويتمّ الدفع باتجاه الفصل السياسي والجغرافي مع “حزب الله”.
والثابت في كل هذه الحالات، انّ “حزب الله” ليس في وارد تسليم سلاحه الذي يشكّل أداة لمشروعه الثوري، وانّ قيام دولة لبنانية طبيعية في ظل سلاح الحزب ومشروعه الثوري الديني غير ممكن، وانّ الاستمرار في هذا النزف المتواصل خطير للغاية، كون المستفيد منه هو الحزب الذي يراهن على عامل الوقت لقلب ميزان القوى الديموغرافي وإرساء مشروعه الإيراني، وانّ المواجهة التقليدية لهذا المشروع أعطت ما عندها، ويستحيل ان تحقِّق العبور إلى الدولة. وبالتالي، لكل هذه الاعتبارات وغيرها، لا حلّ سوى بالدفع باتجاه مشروع الفصل، لأنّ التمسُّك بمشروع الوصل أصبح يشكّل خطورة على ما تبقى من مكامن قوة للجمهورية اللبنانية.
وإذا كان من الطبيعي ان تُخاض المواجهة مع الثورة الفلسطينية والجيش السوري على قاعدة إخراجهما من لبنان، فإنّه من غير الطبيعي ان تتواصل المواجهة مع “حزب الله” على قاعدة كلاسيكية قوامها دعوته إلى الالتزام باتفاق الطائف والقرارات الدولية، خصوصاً انّ هذه الدعوة بقيت صوتاً في البرية منذ 17 عاماً إلى اليوم وستبقى إلى أبد الآبدين، ما لم تتبدّل موازين القوى الخارجية. وبالتالي حان الوقت للانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة قوامها مغادرة أفكار “أم الصبّي” والعيش معاً والـ10452 ووطن الرسالة، وتخيير الحزب بين الوصل على أساس مشروع لبناني مشترك، وبين الفصل والعمل علناً وجهاراً في هذا الاتجاه. فأسلوب المواجهة الذي يفشل بعد سنوات من تحقيق أهدافه، يجب استبداله بأسلوب مواجهة آخر.