سلّطت أزمة النفايات الضوء مجدداً على الأبعاد الثلاثة للأزمة اللبنانية: البعد السيادي، البعد التمثيلي والبعد الإصلاحي، حيث أظهرت الأزمة الأخيرة بالملموس أنّ الفساد مُستشر في معظم مؤسسات الدولة، والأخطر المناخ الاستسلامي لهذا الواقع.
بمعزل عن أولوية كل بعد من الأبعاد الثلاثة، إلّا أنّ المشترك بينها هو ترابطها وتداخلها تحت عنوان واحد وهو الانتقاص من دور الدولة وحضورها وهيبتها، هذه الدولة التي لا قيامة لها في حال لم تكن سيدة على أرضها، وتعكس إرادة كل أبناء شعبها، وتحكم البلد بعقل مؤسساتي يرتكز على المحاسبة والمُساءلة والقانون.
وقد أظهرت أزمة النفايات انه بعد أكثر من عشر سنوات على خروج الجيش السوري من لبنان لم ينجح اللبنانيون في معالجة أيّ من الأزمات الثلاث، وكأنّ هناك إرادة لإبقاء لبنان دولة فاشلة للأهداف المعلومة إيّاها والمتصلة بإبقائه ساحة مُستباحة للقوى الخارجية.
وإذا كان متعذراً إنجاز السيادة بفِعل سلاح «حزب الله» الذي يتطلب تسوية إقليمية سعودية-إيرانية، وليس تسوية لبنانية، لأنّ الحزب ليس بوارد تسليم سلاحه للدولة من تلقاء نفسه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو عن الأسباب التي حالت لغاية اليوم من دون تحقيق البعدين التمثيلي والإصلاحي؟
وإذا كان لـ«حزب الله» مصلحة في منع قيام الدولة، لأنّ قيامها يتعارض مع وجوده، فإنّ رَمي مسؤولية عدم إنجاز البعدين التمثيلي والإصلاحي على الحزب وحده ليس في محله، ومن يرى خلاف ذلك ما عليه سوى إثبات أنّ المسؤولية في الأبعاد الثلاثة تقع على الحزب منفرداً، الأمر الذي يتطلب حَشره من خلال اتفاق معظم القوى السياسية على قانون انتخابي تمثيلي ونهج إصلاحي حكومي-إداري، وفي حال ممانعته يمكن عندذاك وضع المسؤولية عليه وحده.
وليس المقصود إطلاقاً التخفيف من تأثير عامل السلاح غير الشرعي على الممارسة السياسية، لأنّ هذا السلاح الذي يغيِّب الدولة يشجِّع على استباحة الدستور والقوانين، ويشرِّع الباب أمام الفساد والهدر والمحاصصة، ولكن هذا لا يعني الخضوع لمنطق السلاح، بل مواجهته، إنما ليس عن طريق السلاح بطبيعة الحال، بل عن طريق التضييق عليه عبر توسيع رقعة الدولة من خلال تطبيق الدستور والقوانين في كل القضايا والملفات، وبالتالي تسليط الضوء على هذا الطرف الذي يريد تحصين شريعة الغاب وحمايتها.
وقد أظهرت الممارسة السياسية منذ عقد إلى اليوم أنّ التركيز حصراً على سلاح «حزب الله» كان خطأ، فيما كان بالإمكان التركيز عليه ولكن من دون إهمال الجوانب الأخرى التي تتصل بهيكل الدولة في لبنان، حيث أنّ صورة البلد اليوم تشوّهت بشكل كبير، ولم يبق من مؤسسة عاملة في الدولة سوى المؤسسات العسكرية والأمنية، فيما كل المؤسسات الأخرى إمّا معطلة أو تتطلب إصلاحاً شاملاً.
وهناك انطباع سيئ لدى شريحة واسعة من اللبنانيين بأنّ النظام اللبناني أعطى أقصى ما عنده ووصل إلى الحائط المسدود، وانه بات من الضروري الذهاب نحو نظام جديد، فيما أيّ نظام ستحكمه الذهنية نفسها سيكون معرّضاً للفشل والانهيار.
ولا يكفي البقاء في الموقف الانتظاري المعوِّل على التطورات الخارجية، لأنّ الانتظار على رصيف الأزمات والأحداث أظهر أنّ الدولة تتآكل ومنطق الدويلة يتمدد على كل الدولة، فيما المطلوب أن يكون هناك دولة في اللحظة التي تنقشع فيها الرؤيا الدولية-الإقليمية.
وإذا كانت 14 آذار رفضت مواجهة السلاح بالسلاح، وحسناً فعلت، فإنّ انكفاءها عن المواجهة في البعدين التمثيلي والإصلاحي يعني إمّا انّ البعض منها يتلطّى بـ»حزب الله» لمآرب سلطوية وهو غير مستعد لخوض مواجهة من طبيعة إصلاحية، وإمّا سيتحمل تَبعات ما سيؤول إليه مصير الدولة في لبنان.
فالوضع في العام 2015 اختلف عمّا كان عليه في العام 2005، ولم يعد مسموحاً إهمال ما يفترض انه من البديهيات ويتصل ببناء دولة القانون والتي تجسِّد صحة التمثيل للمجموعات اللبنانية. والنموذج الذي قدمه الوزير أبو فاعور غير كاف ما لم يترافق مع خطة شاملة للدولة اللبنانية.
وإن اختصار عشر سنوات بجملة واحدة لا يعني تجاهل الصعوبات التي واجهتها حكومات 14 آذار على صعد مختلفة أمنية وعسكرية وسياسية، ولكن يجب الإقرار بالمقابل أنّ الرأي العام لم يميّز بين ممارستها للسلطة وممارسة أخصامها، الأمر الذي يجب أن يدفعها إلى وضع خطة بناء شاملة قبل فوات الأوان.
ومن هذا المنطلق يجب أن تكون أزمة النفايات هي المحفّز لانطلاقة جديدة، خصوصاً مع اختلاف الوقائع التي رافقت السنوات العشر الماضية، حيث أنّ «حزب الله» ولضرورات حربه في سوريا أصبح مشجّعاً على الاستقرار السياسي والعسكري والأمني، كما أنّ ميزان القوى الإقليمي وصعود التطرف الإسلامي جعلاه أكثر واقعية بالتعاطي مع الواقع اللبناني لجهة التسليم بميزان القوى الداخلي وعدم الانقلاب عليه.
فمشروع الدولة أو الشعار الذي أطلقته قوى 14 آذار «العبور إلى الدولة» لا يُجزّأ، بل هو كلّ متكامل، وبالتالي ما أهمية أن تكون الدولة سيّدة على أرضها إذا كانت فاسدة أو فئوية ولا تجسِّد الشراكة المسيحية-الإسلامية الفعلية؟
وهل مسموح استمرار اختصار الأزمة اللبنانية ببُعد واحد، وهو السلاح، ومواصلة تجاهل البعدين الآخرين المتصلين بالتمثيل والإصلاح؟ وهل مسموح عدم التوصّل بعد إلى قانون انتخابي يعيد تصحيح الخلل الذي أحدثته الوصاية السورية في لبنان؟
وإذا كان «حزب الله» يتحمّل بوضوح مسؤولية انتهاك البعد السيادي، فلقد حان الوقت للكشف فعلياً ما إذا كان يتحمّل أيضاً مسؤولية عرقلة الإصلاح وتصحيح التمثيل، أو انه لا يتحمل تلك المسؤولية، ولا بأس من تحالفات على القطعة إذا كانت تؤمن تحقيق البعدين التمثيلي والسيادي بانتظار التطورات الإقليمية التي ستحسم مصير السلاح.
وقد حان الوقت لرافعة من قلب 14 آذار تتولى تجديد روحية الثورة كما كانت عليه في عزّ البدايات.