بعد ربع قرن على ولادة اتفاق الطائف وحوالى القرن على ولادة لبنان الكبير، ما زالت المشكلة في لبنان نفسها وتتعلق تحديداً بغياب النظرة المشتركة بين اللبنانيين للمصلحة اللبنانية، وتَبدية أولويات أيديولوجية وقومية ومذهبية وإقليمية وخارجية على الأولوية اللبنانية.
لا اختلاف بأنّ الدستور اللبناني بحاجة إلى تطوير وتعديل وترشيد وتصحيح من أجل سدّ الثغرات التي أظهرتها الممارسة، وآخرها الانتخابات الرئاسية، حيث لا يوجد دستور في العالم يُجيز الفراغ ويشرّعه، فضلاً عن الحاجة الفعلية إلى تحديث التجربة والممارسة بعيداً عن التخويف من الديموغرافيا والجغرافيا، وبعيداً من التعطيل والتجميد وغياب التجديد.
ولكنّ المشكلة لم تكن يوماً في النصوص، والتمسّك بها في الأمس واليوم مَردّه إلى غياب عامل الثقة بين اللبنانيين، الأمر الذي يجعل كلّ فئة منهم تحاول الانغلاق على نفسها خوفاً من الأخرى، أو التمَدّد على حساب الأخرى إذا رأت لذلك سبيلاً. وبالتالي، ما يستدعي المناقشة الفعلية ليس المواد الدستورية، إنما كيفية استعادة اللبنانيين لثقتهم ببعضهم.
واستعادة الثقة لا تكون بضمانات نصيّة من قبيل تضمين الدستور فقرات تتعلّق بنهائية الكيان اللبناني وعروبته والسيادة على أرضه والشراكة الكاملة في قراراته، إنما تكون من خلال تفاهم واضح حول معنى لبنان ودوره وإدارته، وما لم يتمّ التوصّل إلى توحيد الرؤية اللبنانية حول دور لبنان وهويته لن تجدي دساتير العالم نفعاً للبنان واللبنانيين.
فالجمهورية الأولى لم تسقط نتيجة الخلاف على امتيازات الموارنة وصلاحيات رئيس الجمهورية وغياب المساواة في الشراكة، وكلّ هذه العناصر وغيرها كانت تتطلّب تعديلاً، إنما تهاوَت بفِعل العامل الفلسطيني واعتبار المسلمين، وفي طليعتهم السنّة، أنّ المقاومة الفلسطينية من لبنان باتجاه إسرائيل طبيعية وبديهية وشرعية، وأيّ موقف آخر هو خيانة وطنية، كما اعتبارهم وجود الجيش السوري في لبنان أخويّ وعامل داخلي لا خارجي وهدفه مساعدة اللبنانيين لا استخدامهم لمآربه وأهدافه.
وقد أدّت مجموعة أحداث داخلية وخارجية إلى تطوير الشعور السني من تغليب المصلحة القومية إلى تغليب المصلحة اللبنانية، وساعد في ذلك بروز الخطر الإيراني وتراجع الدور العربي وانكفاء منظمة التحرير الفلسطينية إلى داخل بلادها وصعود الدور السعودي الذي وَقف ضد الإسلام السياسي والمشاريع القومية وذهبَ إلى ترسيخ مبدأ الكيانات وحدود دور الدوَل ضمن جغرافيتها. ولا يفترض التقليل أيضاً من التعارض السنّي مع النظام السوري الذي بَدّى منذ مطلع التسعينات تحالفه مع إيران، واستطراداً «حزب الله»، على أيّ اعتبار آخر.
وإذا كان ميثاق العام 1943 قد سقط نتيجة الخلاف حول الخيارات الوطنية الكبرى، فإنّ ميثاق الطائف لم يطبّق نتيجة الخلاف نفسه، مع فارق انتقال السنية السياسية إلى اللبننة والشيعية السياسية إلى سياسة المحاور والأحلاف وتخوينها كلّ مَن يعارض مقاومة «حزب الله» لإسرائيل و»داعش»، ورفضها تسليم سلاحها، وتمسّكها في «حقها» بالتفرّد بالقرار الاستراتيجي الوطني.
وانطلاقاً من ذلك يصبح الكلام عن تعديل دستوري مجرّد ترتيب إداري – لفظي من دون الدخول إلى جوهر المشكلة المتّصلة بخيارات اللبنانيين، وكأنّ هناك إرادة للفصل بين البُعدين الإداري والوطني، حيث يتولى «حزب الله» الجانب السيادي، ويسهر في الوقت نفسه على تنظيم التوازنات بين القوى السياسية وتعاونها على إدارة مرافق الدولة المتصلة بيوميات اللبنانيين.
ومن هنا، فإنّ تطبيق اتفاق الطائف وتطويره هما أكثر من ضروريين، ولكن المشكلة ليست في الطائف ولا في غيره، وكلّ بحث في هذا السياق لن يجدي نفعاً، والوضع في لبنان لن يستقيم قبل اتفاق مكوّناته كلها، جماعات وأفراداً، على أولوية المصلحة اللبنانية، وجعل الدولة المساحة المشتركة بينهم بعد إعادة تحديد مفهوم وظيفة هذه الدولة لجهة أنها الوحيدة المخوّلة الدفاع عن لبنان واحتكار السلاح. وعندذاك فقط يمكن الحديث عن تعديلات دستورية يُفترض أن يكون جوهرها الأساسي تقديم الاعتبار اللبناني على الطائفي.
فالأزمة اللبنانية ليست من طبيعة دستورية، إنما من طبيعة وطنية – سياسية، والمدخل لحلّ هذه الأزمة يكون بالاتفاق على أيّ لبنان نريد؟ لأنّ الخلاف هو على نقتطين مترابطتين: دور لبنان وتغييب الدولة، وعندما يُحسم هذا الخلاف بالاتفاق على تحييد لبنان ومرجعية الدولة، يصبح النقاش حول الدستور ومواده مفيداً.
ولكن قبل ذلك، أيّ نقاش دستوري هو من باب الترف أو منصّة للتصويب على فئة معينة وتصوير فئات أخرى بأنها مَغبونة، فيما المُهَمِّش هو الذي يُغيّب الدولة، والمُهَمَّش هو المواطن اللبناني الطامح إلى عودة لبنان دولة طبيعية كسائر الدول في العالم.