Site icon IMLebanon

لبنان والأمل الذي لا شفاء منه!

 

«الأمل الذي لا شفاء منه»… عبارة تكررت في مقالاتي الأخيرة، وفي عشرات المقالات لوطنيين لبنانيين وعراقيين وليبيين وسوريين ويمنيين. وهي لا تنمُّ عن تفاؤل من أي نوع؛ إذ تعني أن الأمل في مخرج من هذا الانسداد الهائل صار بمثابة المرض أو الوهم. لكن ماذا بوُسع الناس ذوي العقل والحساسية أن يفعلوا، وهم يرون أن مصائر عشرات الملايين من البشر على المحك، بحيث لا يعود هناك مجال للاستسلام لليأس والغرق في المكان والزمان، أو الاستمرار في تحدي الحائط الشاهق ولا مستند إلا الرهان على حق الناس في الحياة والحرية والكرامة؟ ميشيل كيلو؛ الوطني السوري، مات في الغرب بفرنسا. والعالِم اليمني يوسف عبد الله مات في الغربة بالقاهرة. ميشيل كيلو طالب السوريين الأحياء في وصيته بالإصرار على الحرية. ويوسف عبد الله كان ديدنه في شهوره الأخيرة الترديد: لا بد من صنعاء ولو طال السفر! والفلسطينيون يتخطَّون بالعزيمة واللحم الحي سدود الاحتلال ليصلي منهم بالمسجد الأقصى في الجمعة الأولى من رمضان سبعون أْلفاً من النساء والفتيان والشيوخ. كل هذه الظواهر والمظاهر هي أمائر للأمل الذي لا شفاء منه بالأوطان والإنسان والحرية؛ حرية القدس وصنعاء ودمشق وبغداد… وبيروت.

هل الوضع في بيروت ولبنان على هذه الدرجة من السوء؟

الوضع في لبنان بالغ السوء بالفعل. وأسوأ ما بلغه أن دُعاة الإصلاح الجذري هم أنفسهم الذين صنعوا بأيديهم الفساد المشهود الذي أفضى إلى الانهيار الشامل. وهؤلاء لا يعمدون في مساعيهم «الإصلاحية» إلى الاعتراف والتوبة والمراجعة؛ بل يمعنون في الفساد والإفساد إما برجاء أن يصدّقهم الجائعون الهائمون في الشوارع، وإما برجاء أن يسكت أو يهلك خصومهم الحاليون وشركاؤهم من قبل!

منذ عام ونيّف اتفقوا جميعاً على إقفال البنوك على ودائع الناس، وأطبقوا على التوقف عن دفع فوائد الديون الضخمة بحجة الإفلاس. وبعد ذلك مباشرة، والشباب يملأون الشوارع باحتجاجاتهم – انصبّ سخطهم على أصل الفساد الذي اكتشفوه في المصارف والبنك المركزي. والجميع، وهم في الطليعة، يعرفون أن المصارف ديَّنتْ البنك المركزي، والبنك المركزي غطى مصاريف الحكومات المتعاقبة من أموال المودعين. وحكومات الطبقة الحاكمة التي استهلكت عشرات المليارات ما ردّت بالطبع شيئاً. كل هذه المصاريف التي ضاع نصفها في الهدر والفساد أُمر «المركزي» بقوانين في مجلس النواب بصرفها للوزارات والمشروعات؛ لماذا أُعطيتَهم يا حاكم «المصرف» وأنت تعرف المصائر والمآلات؟ لنسلِّمْ أن الحاكم ضعيف أو مُخامر، لكنْ هل كان بوسعه مقاومة جبران باسيل صهر الرئيس، والذي صرف زهاء 45 مليار دولار على الكهرباء وحدها التي لا تزال تنقطع عن المواطنين ثلثي الوقت؟!

اكتشف أرباب الفساد إذن علة للفساد والنهب في تصرفات المصرف المركزي وقطاع المصارف الخاصة. واستطاع العونيون و«حزب السلاح» تحريك كثير من الشباب في الشارع لمحاصرة البنك المركزي وتخريب المصارف المقفلة. ثم مضوا قُدُماً بالبحث عن الأموال المنهوبة والأموال المهرَّبة إلى الخارج. والأموال المنهوبة استأثر بمعظمها المسلحون وأنصارهم والمتسترون بهم، أما المهرَّبة إلى الخارج فمعظمها هرَّبها العونيون وأتباعهم. والقاضية غادة عون الطاغية على القضاء كله نموذج للبحث عن المهرِّبين وكشفهم ومعاقبتهم.

ما بقي أخيراً في البنك المركزي إلا أقل القليل، والذي لا يكفي بالطبع لتغطية استيراد الضروريات في الغذاء والدواء والطاقة. لكنّ ثلثي المواد المشتراة بالدعم من البنك يجري تهريبها إلى سوريا، وتصبح نادرة في السوق اللبنانية. وخرج علينا شيخ من أنصار الحزب أخيراً ليقول إن التهريب جزء من المقاومة! «الحزب المسلَّح» مستولٍ على المرافق ووارداتها، فشبكة الفساد الهائل هذه يغطيها الحزب ويشارك فيها. وإذا قيل إن اللبنانيين يعانون بشدة من انهيار الليرة، فعند الحزب الحل من خلال نظامه الخاص: القرض الحسن والسوبرماركات التي تبيع السلع بأسعار أرخص من السوق!

ولا ينتهي الأمر بحصار المواطنين بين الميليشيا والمافيا؛ ففي الشهور الأخيرة من عهد (الرئيس الأميركي السابق) دونالد ترمب، خطر لـ«الحزب المسلَّح» توجيه أنظار اللبنانيين، بل وأنظار الأميركيين، إلى الخيرات البترولية والغازية في البحر اللبناني على الحدود مع إسرائيل. قالوا إنهم مستعدون للموافقة على ترسيم الحدود البحرية مع العدو. وهكذا خيضت مفاوضات بوساطة أميركية، وانعقدت ثلاث جلسات بدت واعدة، وبخاصة أن الجوار البحري للبنان بين إسرائيل وقبرص ظهرت فيه ثروات، فلماذا لا تظهر في القسم اللبناني؟ إنما في الجلسة الثالثة وقد سقط ترمب وما عادت هناك حاجة لمجاملته، بل ظهرت الحاجة للضغط على إدارة الرئيس بايدن من أجل العودة للاتفاق النووي – في الجلسة الثالثة طرح مفاوضو الجيش اللبناني فجأة خريطة جديدة لحدود لبنان البحرية تزيد 1400 كيلومتر عمّا كان لبنان في الجلستين الأوليين يطالب به. وتعطلت المفاوضات بالطبع. وبدا الرئيس اللبناني مصراً على الحقوق الوطنية إلى آخر متر، لكن عندما حضر وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل للبحث في المسألة، عاد الرئيس فتخلى عن مقاربة الحزب والجيش، ورضي باستقدام خبراء دوليين لإعادة النظر في المسألة. لكن في الوقت الذي كان فيه الوطنيون الكبار والمقاومون حريصين جداً على التدقيق في الحدود البحرية مع العدو، أقدم السوريون؛ وهم حلفاء عون والحزب، على عقد اتفاقية مع الروس في الشمال لاستخراج الغاز من هناك داخلين لأكثر من ألف كيلومتر في المياه اللبنانية، وصرّح الأسد بأن مزارع شبعا في الجنوب أرضٌ سورية! وبالطبع ما حرَّك عون ولا الحزب ساكناً، باعتبار أن الصديق الحليف لا حسابَ عليه!

وسط هذا الانسداد الكبير بسبب سياسات المافيا والميليشيا، مع الإصرار على عدم تشكيل حكومة للتصدي للانهيار وفكّ العزلة عن لبنان، برزت مبادرة البطريرك الماروني الراعي لتحرير الشرعية من الإسار والارتهان، وتشكيل حكومة تكنوقراط، والحياد، والمؤتمر الدولي من أجل لبنان.

لقد رأى كثيرون من الوطنيين اللبنانيين في مبادرة البطريرك الأمل الذي كانوا يبحثون عن بوارقه. فقد اصطدم البطريرك بالفعل مع «الحزب» ومع الرئيس. لكن ثنائي «الحزب وعون» لا يزال متماسكاً في التعطيل والتصديع للمؤسسات؛ وآخِرها السلطة القضائية التي تعجز عن التقدم في تحقيقات انفجار المرفأ، وتصطنع الآن ثورة على القضاء من داخله بحجة تتبع تهريب الأموال!

في زمن التهديد بالاختناق والحرب الأهلية، والمجاعة التي تخترق الأبواب والشوارع، لا يبقى لنا شأننا في ذلك شأن السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين والفلسطينيين إلا الأمل الذي لا شفاء منه: الأمل بتحرير الشرعيات، وإحياء الدولة الوطنية؛ دولة الدستور والعيش المشترك، وقيام تحالف الاستقلال الثالث لتجاوز الميليشيا والمافيا معاً!