حينما يرتفع سقف الشعار السياسي في الانتخابات النيابية تقل نسبة الديموقراطية، ونراها تزيد في الانتخابات البلدية (المحليات)، لكونها تقوم على المصالح اليومية لا على الشعار الفضفاض وتوجيه تهمة الخيانة إلى الخصم.
نجح اللبنانيون في المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية في بيروت والبقاع، والمتوقع أن يواصلوا في جبل لبنان والجنوب والشمال. وفي ذلك تسفيه لتعطيل الانتخابات النيابية والتمديد المتواصل للبرلمان الحالي الذي أصبح متحفاً لتماثيل أثرية أو مخزناً للعب قديمة ينفر منها الأطفال. وتكفي انتخابات بلدية في بلدة عرسال المجاورة لمواقع «داعش» و «النصرة»، لإظهار إمكان إجراء الانتخابات، حتى على حافة الخطر، في أي مكان في لبنان.
نحن أمام شهادة، وإن خجولة وجريحة، على الديموقراطية اللبنانية المستمرة منذ عشرينات القرن الماضي والمبنية على حصص طائفية تراعي المجتمع. إنها ديموقراطية خجولة بزعمائها الذين اكتسبوا صفة الحاكم السوري «إلى الأبد»، حين كانوا يوالون أو يعارضون هيمنته على لبنان. وهي ديموقراطية جريحة مع انحلال الطبقة الوسطى لمصلحة أغنياء السياسة والفساد وفقراء يزدادون عدداً والتحاقاً بمن يتحكّم بلقمة العيش.
الانتخابات البلدية تجرى في نطاق ضيق جغرافياً وسكانياً، لكنها تبدو في بيروت استثنائية، فبلدية العاصمة ينتخبها مواطنون ينتمون إلى ثلاث دوائر انتخابية نيابية، أي أن المحلي هنا أوسع من النيابي، وهذا يتطلب تقديم السياسة على الإنماء ومصالح المجتمع الأهلي. مع ذلك، جرت المواجهة بين لائحة سياسية وأخرى تخلّت عن السياسة لمصلحة الإنماء. وقد نالت الثانية 45 في المئة من أصوات المقترعين، فيما فازت الأولى بـ55 في المئة. وإذا أضفنا أن 20 في المئة فقط أدلوا بأصواتهم، فلا بد من الاعتراف بيأس الغالبية من تداول السلطة حتى في المستوى المحلي.
لكن الأمور ليست سلبية كما يبدو، إذ قدّمت الانتخابات البلدية في البقاع، كما يتوقع أن تقدّم في جبل لبنان والجنوب والشمال، نماذج شجاعة في تحدي هيمنة الزعماء السياسيين وتجميدهم حراك المجتمع وربطهم مصير الوطن بمصير زعاماتهم المتحكّمة بالمال العام والموالية لهذه أو تلك من القوى المنخرطة في الصراع الدموي داخل سورية، وربما داخل العراق.
تحدّي الهيمنة يبدو واضحاً في الانتخابات البلدية، فيما يبقى البرلمان مُلكاً للزعماء، هو والسلطات التنفيذية، وسيبقى كذلك في الشروط الحالية المتحكّمة ببلد يهدّده حريق الداخل العربي. البلديات أقرب الى الناس، ودوائرها الضيقة تسمح باختيارات متعددة عبر المجتمع الأهلي بعائلاته ومصالح أفراده، على رغم أن الزعماء ينغصون حق الاختيار هذا، لئلا ينتقل التغيير من تحت (البلديات) الى فوق (البرلمان). وتتجلى شجاعة المجتمع الأهلي أو المدني (في مناطق حضور ما تبقى من الطبقة الوسطى) في خرق لوائح تحالف الزعماء أو التغلُّب عليها. ويصل الأمر إلى تأليف لوائح معارضة في انتخابات الأحد المقبل في نواة «حزب الله» الاجتماعية في ضاحية بيروت الجنوبية. يعلن المعارضون تأييدهم السياسي العام، لكنهم يرفضون الامتثال للوائح يفرضها «حزب الله» وتفشل في إدارة التنمية المحلية. هكذا يحضر المجتمع، كما هو حقاً، في الانتخابات البلدية عبر المصالح الملموسة، وحتى عبر العصبيات الأليفة، إذ تتعرض قواعد الزعماء للانقسام مثلما تنقسم الطائفة أيضاً.
كلما صغرت دوائر الانتخابات تهبط السياسة إلى الطائفة ثم إلى العشيرة ثم إلى العائلة، وتضطر أحزاب الزعماء الى ارتداء لباس العائلة، ما يفقد قيم هذه الأحزاب معناها ويفضح هزالها.
ثمة قوة دفع للديموقراطية اللبنانية العريقة هذه الأيام، عبر الحراك المدني والانتخابات المحلية وتوجيه الاتهام الى الديكتاتوريات الصغيرة وفسادها، في وطن يتعرّض لأزمة وجود ولا يسعفه سوى رصيد حداثة لم ينضب بعد.