IMLebanon

الحوار اللبناني ونهاية دولة الطائف؟

بدا كاريكاتورياً تماماً ذلك الخبر المنشور قبل أيام عن رحلة النائب آلان عون من «التيار الوطني الحر»، الحليف الوثيق لحزب الله وصواريخه المئة الف و «مقاومته» المدججة بكل أنواع السلاح، الى العاصمة الأردنية للمشاركة في مؤتمر دعا إليه البرلمان الأردني و «التجمع الدولي للبرلمانيين» تحت عنوان «الحد من انتشار الأسلحة الخفيفة». لكن الكاريكاتورية هنا أقرب الى التغريبية البريختية لشدة تناسيها للواقع وإظهارها لموقع التيار العوني حيال حليـفه الفـائـض القـوة، بحيث بدا أن توزيع العمل بين «الحليفين» لا يقوم إلا على خداع الطرف الأضعف لنفسه حول شروط عمله ومعطيات الوضع اللبناني.

وهو أمرٌ أكَّدته واقعة أخرى برزت من خلال تبشير قائده ومرشحه للرئاسة الجنرال ميشال عون في تصريحاته التالية لفشله في اجتذاب تيار المستقبل إلى تأييده كـ»مرشحٍ توافقي»، بانتقال العلاقة بحزب الله من «التفاهم» إلى «التكامل الوجودي». تصريحٌ لم يتأخر الحزب في الرد عليه بلسان المعاون السياسي لأمينه العام حسين خليل بالقول: «نحن نضيف ونقول إننا والتيار الوطني الحر أصبحنا كالجسد الواحد اذا اشتكى فيه عضو تداعت له سائر الاعضاء بالسهر».

وللمفارقة، جرت الواقعتان في الوقت الذي وجد حزب الله عبر نائبه نواف الموسوي أنه معنيٌ بتقديم «توضيح» لقبول الحوار مع «تيار المستقبل» الذي كان قد أعلنه قبل أيام من ذلك السيد حسن نصر الله في خطبة عاشورائية، من باب «نحن جاهزون لكل شيء يمكن ان يحصّن البلد»، وكذلك من باب الإشادة بموقفه من أحداث طرابلس. وهو توضيحٌ يحدِّد سقف مشروع الحوار ومضمونه بالإقرار بأن اتفاق الطائف كل متكامل «فمن انقلب على جزء منه متعلق بالمقاومة فقد انقلب على اتفاق الطائف بكامله»، علماً أنه يعرف تمام المعرفة أن الإتفاق لم يُشِر إلى المقاومة بالاسم أو بالمعنى لأن مادته الثالثة التي تتصل بتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي و «استعادة سلطة الدولة حتى الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً» لم تُشِر إلى المقاومة، بل إلى اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الاراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الأمن والإستقرار إلى منطقة الحدود والعمل على تنفيذ القرار 425 والتمسك باتفاقية الهدنة لعام 1949.

والحال أن إغراق الطائف بشرط ديمومة وشرعنة التنظيم المذهبي المسلح و «مقاومته» وتفعيل ارتباطاته وأدواره الخارجية نافٍ جوهري للدولة بذاتها ولدولة الطائف خصوصاً بوصفها تسوية طوائفية ضمن مفهوم الديموقراطية التوافقية، مثلما أن السلاح والقوة مضادان لصحة التوافق ولسلمية المشهد السياسي معاً. وبذلك فمصطلح «الحق بالمقاومة» الذي أُدخِلَ بسبب استمرار الاحتلال الاسرائيلي للشريط الحدودي وتحت ضغط الاحتلال الأسدي ودوره «التحكيمي» في البيان الوزاري لأول حكومة بعد الطائف، أصبح بعد انقضائهما وبعد صدور القرار 1701 خارج أية شرعية دستورية أو أممية، كما غدا بعد الثورة السورية فاقداً للشرعية الوطنية وحتى لـ «شرعية الأمر الواقع». وفي المقابل فإن إبقاء المصطلح غداً أداة لتبديل جوهر اتفاق الطائف نفسه كتوافق على إنهاء الحرب الأهلية وعلى تنظيم قواعد عدم العودة إليها.

تتقاطع الوقائع المذكورة على أن تأثير «حزب الله» لا يتمثل فقط في احتلال جزء يناسب الحساب الأولي لتمثيله الطائفي الافتراضي ولوزن سلاحه وتشابكاته الإقليمية من المشهد السياسي اللبناني، مُضافاً اليه وزن حليفه العوني، ولكن أيضاً في أنه يتجاوز ذلك إلى إعادة صوغ هذا المشهد وآليات عمله المعروفة برمتِّها والانقلاب عليها.

والحال أن مجمل النشاط التعبوي والاعلامي والعسكري للحزب اخترق وتحكم بالكثير من مفاصل السلطة التنفيذية وأدواتها المسلحة والأمنية وحوَّل السلطة التشريعية الى هيئة استشارية متآكلة وغير منتجة حتى في المجال الحقوقي والمعياري فضلاً عن الدستوري كهيئة ناخبة لرأس و «حَكم» السلطة التنفيذية. ما جعل المؤسسات تنتج معايير مضادة لفكرة دولة القانون وإلغاء ما بقي من تعالقات ووشائج بين العقلانية ومفاهيم الدولة والحرية والديموقراطية.

وضمن هذا السياق يبدو قبول السيد نصر الله بمشروع الحوار مع تيار المستقبل التزاماً كلامياً ومجرَّداً من أي حظ جدي بالنجاح في ما يتعدى التهدئة الموقتة، بسبب تقييده بشروط لاغية عملياً من نوع إقرار «الحق بالمقاومة» زائداً «شرف إلحاق الهزيمة بالتكفيريين في كل المناطق والبلدان» وعدم معارضة تورطه العسكري الخطير ضد انتفاضة السوريين والحاصل من زاوية مذهبية ونتيجة اصطفاف قطعي مع سياسات النظام الإيراني وفيها.

وبمعنى ما فإن كل ما يفعله الحزب داخلياً يبدو كما لو أنه تحقيقٌ متدرج لأهدافه من المؤتمر التأسيسي من دون انعقاده الشكلي المُتعذر بوجود واستطالة التوتر المذهبي. إذ ما مغزى أن يكون الثابت الوحيد الذي لم يتهلهل في جمهورية الطائف هو موقع رئاسة المجلس النيابي. وما مغزى ان يتكرّر منذ نهاية الوصاية تأخُر انتخاب رئيس جمهورية وأن يتغير رؤساء الحكومة وفقا لأمزجة ومصالح التحالف الممانع وأن تكون سلطة الدولة اضعف بالمطلق من سلطة الحزب وقدرته على تقرير موقع وسياسة البلد الاقليمية ؟

وإذا أخذنا بالاعتبار أن «حزب الله» يريد توسيع هيمنته وشمولها عبر فرض تفسيره الخاص لاتفاق الطائف واشتراطاته الأخرى على أي حوار ومحاولته الإمتداد الأفقي عبر شعاري «تحالف الأقليات» و «محاربة التكفيريين» ونفوذ شبكاته في دولة تتآكل أجهزتها ومؤسساتها، يبدو منطقياً القول بأن اتفاق الطائف دخل فعلياً مرحلة الخطر. فهو كمشروع دولة مركزية طوائفية توافقية في حالة اضمحلال مادي ورمزي، وبهذا المعنى فالدعوة الى تطبيقه غدت خطاً دفاعياً يصعب الدفاع عنه ولم يعُد للقوى التي تحمله ما يكفي من القوة لتطبيقه.

يقترب لبنان من ثلاثة خيارات خارج التفسير التقليدي للطائف بين الاتحادية والمركزية العلمانية و «الدول» السلطانية المذهبية لأصوليات «حزب الله» وخصومه التي قد تنشأ وتتوسع في اجواء المنطقة.

* كاتب لبناني