آخرها يهدف إلى إنتاج رئيس جمهورية من خارج رحم الدستور
تُعرَّف بعمليات سياسية وطنية المنشأ ترمي إلى تحقيق توافق في الآراء بين مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة داخل البلد الواحد. ويكون ذلك أثناء الأزمات السياسية العميقة، أو في أعقاب الحروب، أو إبّان حصول تحوّلات سياسية بعيدة المدى. هي الحوارات الوطنية التي نسمع عنها، هنا وهناك، بين الفينة والأخرى. من أفغانستان وقبرص إلى مصر وليبيا واليمن. ومن غانا والموزمبيق إلى جنوب أفريقيا وفنزويلا. ثمة حوارات تنجح في توليد اتفاقات دون سواها. وثمة اتفاقات تُطبَّق بكليّتها بعكس أخرى. فأين الحوارات اللبنانية – وهي اليوم بنكهة رئاسية – من ذلك؟
أثبتت الأيام أن المسار الحواري (ما بعد الخروج السوري) في لبنان، باعتباره مطلباً أساسياً للتوصل إلى نتائج فعّالة، لم يكن سوى مجرّد مسرحيات هزيلة لتمريرالوقت. سبحة طويلة كرّت مذّاك. بدءاً بحوار 2006 بدعم عربي ودولي بُعيد حرب تموز، مروراً بحوار 2008 إنفاذاً لاتفاق الدوحة، وحوار 2012 قُبيل إعلان بعبدا الشهير، وصولاً إلى حوار 2021 الذي رُفض من أصله في آخر عهود ما قبل الفراغ الحالي. الدعوة لِعقْد حوار جديد أطلّت علينا من بين طيّات الفراغ ذاك. وكثرٌ يشكّكون بأن يُتوَّج عُقمنا الحواري المزمن بإنجاب حلّ رئاسي ما.
حوار… بانتظار القرار
الأستاذ الجامعي والعميد المتقاعد، الياس حنا، يرى في اتصال مع «نداء الوطن» أن الحوار جزء جوهري من العمل السياسي كون السياسة هي تعريفاً فنّ الممكن. لكن من غير المسموح أن يصبح الحوار الأساس ملغياً بذلك دور المؤسسات، بدل أن يكون أداة سياسية لدعم الأخيرة وتسهيل عملية اتّخاذ القرار. ويقول: «في لبنان تحديداً، الدستور هو القاعدة الرئيسية بيد أن ذلك لا يحول دون اتّباع مسار آخر لإيجاد الحلول في حال تعذّر تطبيقه. لكن هناك مؤسسات دستورية يجب أن يمرّ الحلّ عبرها بعد أن يدور الحوار دورته بين مختلف الأفرقاء. فما دور مجلس النواب، مثلاً، في حال اعتُمد الحوار أساساً للانتخابات الرئاسية؟».
حنا تساءل عن أي حوار يجري الحديث في لبنان والأطراف مختلفون ومتعادون، لا يلتقون ولا يجتمعون. «هذا ليس حواراً ولا حتى سياسة. فكيف لرئيس الجمهورية السابق، ميشال عون، أن يكون سياسياً والكلام مقطوع بينه وبين جعجع وفرنجية وجنبلاط، على سبيل المثال؟». ومتطرّقاً إلى الحلول الآيلة للخروج من المأزق الرئاسي، أكّد حنا أن الأمور ستسلك مسارها الصحيح حين يأتي القرار من الخارج، وعندها يصبح الحوار ممكناً. «لكن الحوار بشكله الحالي ما زال مطروحاً بطريقة خاطئة. فحتى الذين يعارضونه لا بدائل لديهم لإيجاد حلول. قد يتعيّن علينا الاقتناع بأن لبنان تَغيّر إلى غير رجعة وبأننا ذاهبون إلى وطن لم نعهده سابقاً. هناك إعادة توزيع للثروة وللسلطة عبر تراجُع فريق وتقدُّم آخر»، كما يشير حنا خاتماً.
تكريس أعراف
هو مشهدٌ جديدٌ يلوح في الأفق وقد يكون ذلك المسلَّم الوحيد الذي يُجمع عليه الجميع. فما هي أسباب رفض الرافضين للحوار المرتبط بملء شغور كرسي بعبدا؟ رئيس جهاز التواصل والإعلام في القوات اللبنانية، شارل جبور، يخبرنا أن جوهر الحوار هو الاعتراف بوجود أزمة وبأن ثمة نية لدى كافة الأفرقاء لمعالجتها. لكن في حال عدم وجود النية تلك لدى الفريق الآخر المُصرّ على وجهة نظره، فيُصاب الحوار بالعقم وتنعدم فائدته. ويضيف: «تبيّن أن جميع الحوارات منذ العام 2006 غير ذي جدوى، وحتى حوار بعبدا الاقتصادي الذي عُقد في أيلول 2019 لم يخلص إلى أي نتيجة تُذكر. فلو أُخذ برأي الدكتور جعجع لناحية الذهاب إلى حكومة أخصائيّين مهمّتهم وضْع خريطة إصلاحية، لما دخلنا في نفق الانهيار الإقتصادي. وهذا ما يؤكّد استغلال الحوار من قِبَل الفريق الآخر من أجل الإيغال في التمدّد بلا أي استعداد للتراجع ولو خطوة إلى الوراء».
بالنسبة للملف الرئاسي، محور الحوار المرجو من البعض الآن، يرى جبور أن هناك مسارَين لا ثالث لهما: إما من خلال صندوقة اقتراع المجلس النيابي ودورات متتالية تفضي إلى انتخاب رئيس، أو عبر إنضاج توافقات انطلاقاً من عجز كل فريق عن إيصال مرشّحه. «لكن إصرار الرئيس بري على الحوار كممرّ إلزامي للانتخابات الرئاسية يعني الذهاب إلى تكريس عرف جديد مخالف للدستور وبالتالي إلغاء دور المجلس. وهنا نتساءل عن الأسباب التي تمنع الذهاب مباشرة إلى جلسات مفتوحة كون الحوار نقطة خلافية ومرفوضة من كثيرين». الهدف هو تحميل مسؤولية ما يجري لجميع الأطراف، علماً بأن الشغور الرئاسي، كما يعتبر رافضو الحوار، سببه الفريق السياسي المعطّل للانتخابات. فلأي مقصد يُعقد الحوار ومن يطالِب به يتحكّم بالبلد ومداخله ومخارجه في امتداد لسطوته التي طبعت العهد الرئاسي الأخير؟
مقاربتان متباعدتان
«الثنائي الشيعي» له قراءته الخاصة. فقد لفت مصدر مقرّب منه لـ»نداء الوطن» إلى أن الإشكالية الأبرز تتمثّل بدعم التحالف السياسي الذي يضم، إلى الثنائي، مجموعة أحزاب وقوى وطنية لترشيح الوزير سليمان فرنجية بشكل واضح وصريح. أما الآخرون، فلم يتمكنوا من الاتفاق على إسم محدّد للمواجهة في البرلمان، كما يردف المصدر. وبسبب صعوبة «حلحلة» المواقف المواجِهة وعدم وجود نص دستوري لاستيعابها، يبقى المخرج الوحيد هو الجلوس حول طاولة مستديرة للخروج بإسمين أو ثلاثة قبل الذهاب إلى المجلس وعقْد دورات مفتوحة. «نشدّد على أن لبّ المشكلة ليس في الحوار بذاته بل في من يرفضونه. فقد شكّلت دعوة رئيس المجلس إليه حالة نفسية لدى هؤلاء وراحوا يرمون المواقف غير المقنعة تصويباً على المبادرة رغم أن الرئيس بري كان جازماً لناحية عدم ترؤسه للجلسة كونه أعلن عن مرشّحه للرئاسة».
ويتابع المصدر بمجموعة أسئلة: ما الضير في الحوار وهل أضحى ذلك كفراً؟ ألم يُنتج حوار الدوحة عملية سياسية أخرجت البلد من عقدة وصعوبات؟ وألم تحصّن الحوارات الأخرى الديمقراطية جاعلة السلم الأهلي ممرّاً حتميّاً للعيش المشترك إذ أراحت الأجواء العامة وخفّفت من منسوب الاحتقان الناتج عن الخطابات المتشنّجة؟ نسمع ونقارِن مع «الرأي الآخر» ونتيقّن بأن القواسم «الحوارية» المشتركة شبه مفقودة. فلنُكمل، على أي حال، مع المصدر: «نعيد التذكير بأن أحد المعارضين للوزير فرنجية أعرب عن أنه سيعطّل نصاب الجلسة في حال تلمّس إمكانية وصول الأخير. فلماذا يُعدّ تعطيل الجلسات حقاً دستورياً عند الآخر ومحرّماً على الثنائي وحلفائه؟». البند الوحيد على طاولة الحوار المطروح هو رئاسة الجمهورية. لكن المصدر يضيف إمكانية الذهاب أيضاً إلى مناقشة الاستراتيجية الدفاعية. لكن هل المسألة مسألة بنود أم إمكانية تلاقٍ من عدمه؟
تَفاوُض لا تَحاوُر
نترك المؤيّدين والمعارضين وننتقل إلى المحاضرة الجامعية والباحثة في عِلم الاجتماع السياسي، الدكتورة ميرنا زخريّا. من منظار أكاديمي، اعتبرت أن الحوار هو عملية تشاوُر/نقاش بين فريقَين أو أكثر بهدف الوصول إلى تفاهم مشترك. لكن التشاور لا يلبث أن يتحوّل إلى جدل حين يتمترس كل فريق خلف رأيه. «يبدو مفهوم الحوار في لبنان أقرب إلى الجدل، ذلك أن المصطلح الثاني يختزن معانيَ خلافية – خصامية، في حين أن الأول يميل إلى تخطّي أي سوء فهم». وبحسب زخريّا، كثيراً ما يتناول السياسيون عندنا الحديث عن «حوارات»، بينما تحتاج تعقيدات الوضع القائم إلى «مفاوضات» بالأحرى. فـ»التحاوُر» سلوك يهدف إلى التعرّف على الآخر، ومن ثم فهمه، حيث لا يشكّل التوصّل إلى تفاهمٍ ما ضرورة. أما «التفاوض»، فمبتغاه حلّ النزاعات على طريق الوصول إلى تسوية حول القضية المتنازَع عليها. بيد أن الدعوة إلى مفاوضات لاختيار رئيس ذات وقعٍ ثقيلٍ على السمع مقارنة مع الدعوة الأخف وطأة إلى حوار.
«في حالة «الحوار» لا يوجد تنازلات أو مكاسب أو مهل زمنية، إذ هو مجرّد أسلوب مُكاشفة ومُصارحة وتعريف بما لدى كل فريق. كذلك، تدور الحوارات عموماً بين فريقين يتبادلان الثقة؛ بينما تكون «المفاوضة» بين من فُقدت الثقة بينهم أو لم تُبنَ من أساسها، وهذا هو تحديداً واقع معظم الأحزاب اللبنانية». الكلام لزخريّا التي تتابع أن هناك سبَبَين اثنين يعزّزان موقف الجهات الرافضة للحوار: من الناحية الخصوصية، تُعتبر المادة 49 من الدستور واضحة لجهة انتخاب رئيس للجمهورية «بالاقتراع السرّي» – لا بالتحاور أو التشاور أو التفاوض – وإلا فليُعدَّل القانون وليذهب المعنيّون إلى التعيين بدل الاقتراع والتفاوض على مناصب الرئاسات الثلاث. أما من الناحية العمومية، فإن عدم تنفيذ مقرّرات جلسات الحوار اللبناني – اللبناني خلال السنوات الصعبة الماضية حال دون تشييد مداميك الثقة بين المتخاصمين.
الحوار، لا شك، من أرقى أساليب التواصل. لكن التحاور أو التفاوض يحتاجان إلى «توافق قبل الدعوة لأي منهما، لا سيّما وأن الحوار حول إسم الرئيس تدور رحاه، إن حصل، خارج رحم الدستور»، برأي زخريّا. بالمناسبة، تُجمع دراسات طالت حوارات وطنية سابقة عالمياً على أن ارتفاع فرص النجاح تحتاج إلى مجموعة عوامل: الإرادة السياسية والشفافية وإشراك الرأي العام، مع جدول أعمال شامل وخطة تنفيذ واضحة المعالم… وإدارة حوار ذات مصداقية. لكن مهلاً. فتوفير الشروط المبدئية تلك (لبنانياً) أشدّ تعقيداً من أي حوار، كائناً ما كان موضوعه. وهذا كان وسيبقى أصل المعضلة وفصلها.