كان يمكن للحكومة اللبنانية، ووزارة الخارجية تحديداً أن تقوم بتدابيرها في التنظيم وإعادة تنظيم أوضاع ادارتها الديبلوماسية من دون مهرجانات الإذلال وبيانات الاستعطاف وإثارة نخوة المغتربين المقتدرين. لم تكن ضرورية حملاتها الإعلامية عن جهاز إرتبط قيامه ودوره بتاريخ استقلال لبنان وحضوره الدولي والعربي، تلك الحملات التي كادت تصوّره عبئاً على الشعب اللبناني وسبباً من أسباب المصائب التي يعيشها.
لا حاجة للتذكير بأهمية الديبلوماسية اللبنانية في أيام العظماء من مؤسسيها وقادتها. فمثلما كان للبنان المقيم قادته البارزون ومسؤولوه المعترف بقدراتهم واخلاقهم، كان للبنان في الخارج ديبلوماسيوه المحترمون الكفوؤون الذين نسجوا له أرفع مراتب الإحترام في مراكز القرار الدولية. كان شارل مالك من هؤلاء ومنهم أيضاً بطرس ديب وشارل حلو وعادل اسماعيل وغيرهم، وصولاً الى غسان تويني ونواف سلام والعشرات من أمثالهما. ومثلما ارتبطت مفاوضات الجلاء باسماء مثل حميد فرنجية وكميل شمعون، ارتبط صدور القرار 425 الذي يفرض انسحاب القوات الاسرائيلية من الجنوب باسم الديبلوماسي غسان تويني وارتبط إعلان بعبدا وإقراره في مجلس الأمن بترؤس نواف سلام لبعثة لبنان في الأمم المتحدة وتمثيله بلده في عضوية المجلس لمدة عامين.
كان النشاط الديبلوماسي وحضور الديبلوماسيين في الخارج يفوقان في أحيان كثيرة الامكانيات التي يوفرها الوضع الداخلي مالياً وسياسياً ومعنوياً. كان هناك صوت واحد هو صوت لبنان فيما البلد الأم يغرق في انقساماته وأزماته. ولأن الديبلوماسيين في غالبيتهم حرصوا على مسؤولياتهم الجامعة، تمكنوا من إعادة وصل مغتربيهم المنتشرين بوطنهم، وبدعم هؤلاء أضافوا ابنية رسمية لبعثاتهم في عواصم كبرى، وشجعوا جالياتٍ على التبرع بأبنية حديثة لبعثات في دول أخرى.
كان الانهيار في الجسم الديبلوماسي، أو بداية مرحلة عدم اليقين، نتيجة عاملين، وضع اليد السورية على الحكومات المتلاحقة من جهة، واستشراء الفساد والتعيينات الزبائنية من جهة ثانية. اما الوصول الى بيانات نُصح السفراء بالتسول من المجتمعات التي يعملون فيها، فلم يحصل الا الآن في وقت لا يخجل حكام البلد من دفع شعبهم بكافة شرائحه ومؤسساته الى مدّ اليد. ألم يفعل هؤلاء الأمر نفسه مع الجيش والمؤسسات الأمنية؟ الم يستجدوا الصناديق الدولية لرشوة المعلمين بمبلغ شهري؟ ثم ماذا تعني البطاقة التمويلية الذائعة الصيت غير البحث عن راعٍ دولي يموّل تعاسة جماهير اللبنانيين؟
بات لكل لبناني في ظل مجلسه العشائري الحاكم «سبونسر» ما. المؤسسات الأمنية والتربوية والصحية ستحتاج الى «اونروا» أُخرى، والأحزاب الفاعلة التي إن لم تكتف بسرقة الدولة فلها دول تسلحها وتطعمها وتقيها البرد، أما عموم الشعب فبانتظار إعاشة محسنين يُسهم توزيعها في استنبات أثرياء جدد يستعدون لتجديد الطبقة الحاكمة.
لم يكن لبنان يوماً بهذا السوء ولا وجهه الخارجي مُمثلاً بديبلوماسييه. لكنها مرحلة وتنتهي.