اهتمام الدولة اللبنانية «الطبيعي» بقضية كارلوس غصن، كشف عن تقصير سياسي في متابعة ملفّات مغتربين آخرين، في فرنسا والإمارات ودول أميركا اللاتينية، يجري التضييق عليهم لأسبابٍ سياسية. تقصير ينتج أحياناً من عقلية الدولة التي لا تحمل همّ «أبنائها»، وفي أحيانٍ أخرى عن ضعف وعدم القدرة على المواجهة دولياً وإقليمياً
ردّ الفعل اللبناني الرسمي، بعد انتشار خبر توقيف رئيس مجلس إدارة شركة «نيسان» كارلوس غصن في طوكيو، يُعدّ ــ دبلوماسياً ــ أمراً «طبيعياً». فمن أقلّ واجبات أي دولة أن تقف إلى جانب مواطنيها ومغتربيها، وتُتابع القضايا التي يواجهونها، حتى ولو كان المعنيّ شخصاً مثل غصن، التصق به عار زيارة الأراضي المُحتلة عام 2008، ومصافحة مُجرمي الحرب والمسؤولين عن مقتل آلاف اللبنانيين والفلسطينيين، من أجل مصالحه التجارية. المشكلة ليست هنا، ولا في أنّ لبنان أبدى اهتماماً بهذه القضية، بل في أنّ المعاملة التي حظي بها غصن «حُجِبت» عن مغتربين آخرين، وهؤلاء «نقطة ضعفهم» أنّهم لم يُسوّقوا أنفسهم بوصفهم «قصّة نجاح للانتشار اللبناني»، أو لا يملكون في حساباتهم ملايين الدولارات التي تضعهم في مرتبة «مُتقدمة» على غيرهم، والأهمّ أنّهم لم يعملوا على إرضاء الولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» وحلفائهما. على العكس من ذلك، نموذج المغترب النقيض لكارلوس غصن، يُعدّ عامل إزعاج لـ«المجتمع الدولي»، وأحد أعداء الأميركيين ومن يدور في فلكهم. يكفي ذلك حتى ترفع الدولة اللبنانية يدها مستسلمة، فينكشف «عجزها» أمام الدول الكبرى، وغياب أي استراتيجية خارجية لحماية اللبنانيين.
مقالات مرتبطة
القضاء الفرنسي: حزب الله بريء من «عملية الأرز»! الأخبار
الملفات بحقّ كلّ من جورج إبراهيم عبد الله، نادر فرحات، محمود بركات، أسعد بركات، علي فواز، أحمد نمر صبح، عبد الرحمن طلال شومان، حسين محمد بردى، جهاد محمد علي فواز، محسن عبد الحسين قانصو وحسين إبراهيم زعرور… طابعها سياسي بحت، إلا أنّ متابعة ملفّات توقيفهم لم تكن على المستوى المطلوب. الأمر لا يتعلق بإصدار بيانات استنكار، غالباً ما تنتهي في الأدراج. لا يكفي أن يُطلَب من البعثات الدبلوماسية، في البلدان المعنية، التحرك والتواصل مع المسؤولين السياسيين. تبقى هذه الخطوات ناقصة ما لم تقترن بضغوط سياسية، تُمارس من أعلى المستويات، تماماً كما فرضت بريطانيا حصول مواطنها ماثيو هيدجز على عفو، فعاد إلى لندن، بعد أن كانت السلطات الإماراتية قد حكمت عليه بالمؤبد بتهمة التجسس. كذلك شمل قرار العفو عدداً من المسجونين الأردنيين في الإمارات. هذا ولا رواية موحدة حول الموقوفين اللبنانيين الستة في أبو ظبي، إن كانوا قد أُحيلوا على المحاكمة «العادلة التي نُتابعها في الوزارة»، كما تقول مصادر «الخارجية»، أو ما زالوا يخضعون للتحقيق في فرع أمن الدولة، كما يؤكد ذووهم. حتى رقم الموقوفين تبيّن أنّه غير دقيق. فبحسب عائلاتهم، هم «سبعة أشخاص وليس ستة، مع احتمال أن يكون هناك موقوفون آخرون لم يُعرف بهم بعد». آخر تحركات الأهالي كان يوم أمس، حيث التقوا ضابطاً في الأمن العام، الذي «أبلغنا أن لا جديد في الملفّ، سوى المعلومات المعروفة بأنّ التهمة الموجهة إليهم هي الإخلال بالأمن».
تظهر المعلومات المتضاربة أيضاً في حالة موقوف لبناني في سريلانكا، ألقي القبض عليه قبل أشهر، بوصفه مطلوباً للولايات المتحدة الأميركية. أحد المسؤولين في وزارة الخارجية اللبنانية يقول: «تبين وجود تشابه في الأسماء، فالشخص المطلوب أوقف في واشنطن، من دون أن يُفرج عن الرجل في سريلانكا». في حين أنّ مديراً في الوزارة «يشكّ» في أن يكون هناك تشابه في الأسماء، ذلك «لأننا طلبنا عدداً من المستندات من أهله، من دون أن يتجاوبوا معنا»، هذا مع تأكيد «متابعتنا للملف». ذاك الرجل في سريلانكا لم يحظَ ببيان يوضح ما حصل ويحصل معه، أسوةً بما انتشر حول قضية كارلوس غصن، وحالته تُشبه وضع اللبنانيين في دول «المثلث الحدودي» في أميركا اللاتينية، الذين يتعرضون لظلم سياسي وتضييق عليهم لأنهم يحملون الجنسيّة اللبنانيّة أو من «البيئة التي تدعم حزب الله». تاجر الهواتف الخلوية محمود بركات أوقف في حزيران الماضي في الباراغواي، بناءً على طلب السفارة الأميركية في أسانسيون (الباراغواي)، رغم أنّ سجلّه العدلي نظيف. الرجل انتقل الأسبوع الماضي إلى واشنطن، بعد أن أصرّ على أن يُسَلَّم إلى السلطات الأميركية، علّه يحظى «بمحاكمة عادلة» ويخرج من السجن، ومن المفترض أن تُعقد أول جلسة محاكمة في كانون الثاني المقبل. أما نادر فرحات، فأوقف أيضاً في حزيران الماضي، بناءً على طلب السفارة الأميركية، ويُتهم بالتهرب الضريبي. جُلّ ما فعلته وزارة الخارجية اللبنانية هو المساهمة في وضع دراسة قانونية، تُساعد في منع تسليم فرحات لواشنطن. ونتيجة الأوضاع الأمنية السيئة في محيط السجن، حيث يوجد، انقطعت زيارات القنصل العام اللبناني حسن حجازي لفرحات. القاسم المشترك بين غصن وفرحات، مواجهتهما لتهمة التهرب الضريبي. فلماذا استُدعى سفير اليابان، في قضية غصن، ولم يُستدعَ سفير الباراغواي في قضية فرحات ومثيلاتها؟ لماذا يُترك الأخير خمسة أشهر في السجن من دون أي تحرك جدّي، بلا ضغوط سياسية من أجل الإفراج عنه، فيما تُقلِق المسؤولين في «الخارجية» خبرية أنّ كارلوس غصن ينام على الأرض؟ الأسئلة نفسها تُطرح في ملفّ أسعد بركات، الذي أوقفته السلطات البرازيلية بناءً على مذكرة توقيف صادرة في الباراغواي. «جُرم» أسعد أنّه جدّد جواز السفر الذي يحمله «رغم سحب جنسية الباراغواي منه عام 2003، بموجب قرار قضائي» (في مركز الشرطة، وبشكل قانوني، مع إبرازه سجلاً عدلياً)، وذلك بحسب ما صدر عن المدعية العامة في الباراغواي. لم تجرؤ الدبلوماسيّة اللبنانية على أن تُطالب ببركات، وهو رجل أعمال، وسبب ذلك أنّه مُدرج على لائحة العقوبات الأميركية بتهمة تمويل حزب الله. وأمام «البعبع» الأميركي، تُصبح السيادة اللبنانية غير ذات فائدة. الأمر نفسه ينطبق على لبنانيَّين أرجنتينيَّين أوقفا في الأرجنتين قبل أيام، بتهمة الانتماء إلى حزب الله. ومن الأدلة التي ساقتها السلطات ضدهما حيازة أحدهما صورةً لراية الحزب! حالياً، تُركز وسائل الإعلام في الأرجنتين على رجل الأعمال و. س. الذي لا يمرّ يوم من دون أن تُحرّض عليه، عبر التهمة نفسها: دعم حزب الله. فهل سيتدارك لبنان الوضع، قبل أن يُصبح هناك سجين سياسي إضافي في «المثلث الحدودي»؟
يقول أهالي الموقوفين اللبنانيين في الإمارات إنّ عدد المعروفين منهم هو 7 وليس 6
أما في فرنسا، ومنذ كانون الثاني عام 2016، فحوكِم لبنانيّون بتُهمة تبييض أموال، وهؤلاء مِن الذين «لم يَسمع بهم أحد» في الدولة اللبنانية. ثمة مؤشرات كثيرة تدل على أنّ قضيتهم مبنية على رغبة أميركية بتشويه صورة حزب الله، ولكن تواصل السفارة اللبنانية معهم كان أقل من «عادي». إنّه تكرار للموقف نفسه: إنّ البعثة لا تتدخل في القضاء الفرنسي.
ينفي مسؤولون في «الخارجية» أن يكون غصن قد حظي باهتمام أكثر من غيره، ولكن «لأنّه حقّق نجاحات كثيرة وثورة في مجال عمله، ويُمثل وجه لبنان، فمن الطبيعي أن يُظهّر الاهتمام به. أما في الحالات الأخرى، إن لم نُحقق نتيجة، فهذا لا يعني أننا لا نتحرك». ويضيف المسؤولون أنفسهم، أنّه في قضية غصن «لا تزال المتابعة في بداياتها، وأصلاً من يُراجع في ملفه هو السلطات الفرنسية، أما نحن فنتابِع». أما بالنسبة إلى الملفات الأخرى، فيقولون: «نعرف أنها سياسية ونتعامل معها على هذا الأساس. هناك متابعة لملف نزار زكا في إيران. وطلبنا من السفير اللبناني في باريس زيارة جورج إبراهيم عبد الله ومتابعة القضية». ماذا عن اللبنانيين في «المثلث الحدودي»؟ الجواب: «القنصل حسن حجازي يزورهم ويُتابع معهم». هكذا، أمام «ضعف» الدولة دبلوماسياً، وسياسياً، يبدو أنّ «الإجراءات التقليدية» أقصى ما يُقدر عليه. وفي ظلّ «عقدة النقص» التي تظهر تجاه المغترب «الناجح» أو، بتوصيف أدق، الذي يوالي السياسات الغربيّة عموماً، يبدو أن لبنان سيبقى يستشرس في الدفاع عن أمثال كارلوس غصن، القادر بأمواله وعلاقاته على الدفاع عن نفسه، أما المغترب «المعتّر» فيستمر التعامل مع قضاياه بمنتهى الخفة.
تاج الدين وزكّا… الاستثناء
عند الحديث عن مغتربين معتقلين لأسباب سياسية، من الذين لا يجدون من يُتابع ملفاتهم، يُستثنى من اللائحة كلّ من قاسم تاج الدين (الموقوف في الولايات المتحدة الأميركية بعد خطفه واعتقاله في المغرب)، وكذلك نزار زكا (الموقوف في إيران). الأخير على تواصل دائم مع المسؤولين السياسيين والأمنيين، وقد التقى المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم في سجنه، وهو يحظى باهتمام فريد من نوعه. قام أخيراً «بواجباته» في المباركة للرؤساء الثلاثة بعيد الاستقلال. أما تاج الدين، فقد سافر اللواء إبراهيم إلى واشنطن، لمتابعة قضيته تحديداً، مع ما يُحكى عن أنّ لقاءً جمع اللواء مع تاج الدين. وأشيع أنّ الدولة الإيرانية طرحت إجراء صفقة تبادل مع الولايات المتحدة، بين زكا وتاج الدين وآخرين، يكون إبراهيم عرّابها.
يُشار إلى أنّ البعض يروي «حكاية» مفادها أنّ تاج الدين رفض أن يخرج بتسوية إيرانية، مُتمسكاً ببراءته.