في القسمة أو الانقسام اللبناني لم يعد المكان وحده قابلاً للتقسيم، فحتى الزمان انقسم في مكانين وهميين، أُعيد في كليهما رسم خطوط التقسيم إلى شطرين أو أكثر أو الدعوة إلى الكونفيدرالية أو الفيدرالية، واستعاد المتحمسون لهذه الخطوط لغة الحرب الأهلية والطائفية والمناطقية، ففي ساعة أشبه بساعة التخلّي، حاول البعض استفزازاً أو استهتاراً فرض توقيته على اللبنانيين، وفقاً لمقتضيات زمانه السياسي الذي مارس فيه غلبة على المكان وسيطرة على الزمان، حتى الدقائق الأولى من فجر السابع عشر من «تشرين» سنة 2019 التي كانت الحد الفاصل ما بين زمانه، زمان السلطة، وزمان اللبنانيين، زمان الانتفاضة.
بعيداً عن المواجهة الطائفية المقيتة لأزمة الانتقال إلى التوقيت الصيفي التي كشفت عن جاهزية المجتمع اللبناني لنزاع أهلي جديد على غرار ما جرى سنة 1975، فإن تراشق الاتهامات ما بين نخب سياسية وروحية وإعلامية في الأيام الماضية حول الدوافع والمبررات وراء تأخير العمل بالتوقيت الصيفي وموقف الرافضين لهذا التأخير، يؤكد أن ما تبقى من المنظومة الحاكمة التي افتعلت أو تسببت في هذه الأزمة لم تزل تحاول بكل ما تيسر لها من إمكانيات وأدوات إشغالَ اللبنانيين بالقضايا التي تريدها بعيداً عن القضايا الأساسية غير القادرة على معالجتها.
على سبيل الافتراض، فقد حاولت منظومة السلطة في أزمة التوقيت تهريب أو التهرب مما قاله تقرير صندوق النقد الدولي حول الوضع الاقتصادي في لبنان، الذي اختصر تقريره بتحذير شبه نهائي، إذ قال إن «لبنان على مفترق طرق خطير… ومن دون الإصلاحات السريعة، سيغرق البلد في أزمة لن تنتهي أبداً»، حيث تجنبت المنظومة الرد على ما جاء في التقرير، وحاولت استغلاله سياسياً من خلال ربطه بالاستحقاق الرئاسي، فمنهم من طالب بضرورة الإسراع بانتخاب رئيسٍ للجمهورية، ولم يتخلَّ عن عرض المقايضة الفرنسي المرفوض من الأغلبية، أو حاول الاستفادة من التقرير من أجل حرق الأسماء التي تتطابق معاييرها مع توصيات المجتمعين العربي والدولي المعنيين بمساعدة اللبنانيين على الخروج من أزماتهم.
ففي الكباش الرئاسي يروّج بعض قوى المنظومة التي لم تنجح في فرض تسويتها عبر الوسيط الفرنسي، للقول إن الأزمة في لبنان ليست سياسية، حيث إن أغلب القوى في الموالاة والمعارضة ما زالت تحافظ على تمثيلها، ما يعني أن الأزمة اقتصادية، لذلك من الأفضل اللجوء إلى اختيار شخصيات ذات بُعد اقتصادي في المواقع الرئاسية، هذا طرح يهدف إلى حصر أزمة السلطة في القضايا الاقتصادية ومعالجتها تقنيا فقط، كأنها تريد التملص من مسؤوليتها السياسية عمّا وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية بسبب سوء إدارتها للدولة، فيما المطلوب داخلياً وخارجياً ربط المعالجة الاقتصادية بالمعالجة السياسية، وهذا يتطلب رجال دولة جدداً من خارج صندوق المنظومة قادرين على القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية.
لذلك تقاتل المنظومة إذا لم تنجح في فرض خياراتها في الاستحقاقات الرئاسية من أجل إفراغ هذه المناصب من محتواها السياسي والدفع إلى اختيار شخصيات تقنية اختصاصية بعيدة عن الشأن السياسي حتى يتسنى لها التحكم عن بُعد في الدولة وحماية نفوذها ومكاسبها.
عودٌ على بدء، إلى الزمان المقسم بين مكانين أو المكان المقسم بين زمانين، فإن نوعية الرد السياسي وليس الطائفي على قرار رئيس الحكومة تأخير العمل بالتوقيت الصيفي، وفقاً لرغبة رئيس مجلس النواب كما تم تسريبه عمداً في شريط مسجّل، هو رد على مواقف الأخير فيما يخص عدة استحقاقات دستورية وتشريعية في مقدمتها الانتخابات الرئاسية ببعديها الوطني والطائفي.
وعليه فإن رسالة واضحة بأن الزمان الذي كانت بعض الأطراف المستقوية بفائض قوتها تفرضه على اللبنانيين شارفَ على نهايته، وأن هذه المنظومة لم تعد قادرة على إعادة عقارب الساعة ساعةً واحدة إلى الوراء، فمن المستحيل إعادته إلى ما قبل «17 تشرين الأول».