الاقتصاد اللبناني صغير بكل المعايير وينزف حاليا بسبب كافة الفراغات السياسية والفساد وسؤ الاداء العام في السياسة والادارة والمؤسسات. انخفض الناتج المحلي الاجمالي الاسمي من 55 مليار دولار في 2018 الى 16 مليار دولار في 2023. اذا حولنا الأرقام الى حقيقية وبسبب التضخم يتبين لنا أكثر حجم خسائرنا. الاقتصاد اللبناني كان وما زال منفتحا على الخارج بفضل قانون النقد والتسليف وكافة الممارسات الرسمية الخيرة حتى سنة 1975. علاقات لبنان الاقتصادية بالخارج كانت وما زالت الركيزة التي يبنى عليها المجتمع اللبناني، وبالتالي هنالك ضرورة للحفاظ على هذه الخصائص المهمة.
تاريخيا كان ميزان المدفوعات الذي يسجل تحويلات النقد من والى لبنان فائضا بفضل رؤوس الأموال التي كانت تأتي الينا للاستثمار أو للاستهلاك أو لمساعدة الأهل والأقارب عندما تتعثر أوضاعهم. قيَّم البنك الدولي مرارا مجموع التحويلات المالية السنوية الى لبنان بحدود 7 مليارات دولار أنقذت اقتصادنا ووعائلاتنا في فترات الحرب المؤلمة. أبقت الاقتصاد «حيًّا» حتى في أحلك الظروف وتستمر حتى اليوم.
لذا استمرار الانفتاح على الخارج مهم جدا خاصة مع وجود جاليات لبنانية كبيرة في الاقتصادات الأساسية بدأ من الولايات المتحدة الى دول مجلس التعاون الخليجي وغيرهما تريد التواصل مع بلد المنشأ ليس فقط في الحفلات الاجتماعية والأعياد وانما خاصة في الاقتصاد أي في التبادل التجاري والمالي حيث لها دور كبير. لا انقاذ للاقتصاد اللبناني من دون تطوير علاقاته الخارجية ليس فقط مع الجاليات اللبنانية وانما مع الدول التي تستضيفهم منذ عقود، كما مع المؤسسات الدولية من صناديق ومصارف ومنظمات سياسية اقليمية ودولية.
الاقتصاد اللبناني منفتح على الخارج وهنالك تشجيع رسمي وخاص لتطوير هذا الانفتاح. ما نراه في لبنان هو كبر العجز الخارجي أي الفارق بين ما يدخل من نقد أجنبي الى اقتصادنا وما يخرج منه. يقسم ميزان الحساب الجاري الى قسمين رئيسيين هما الميزان التجاري وميزان رؤوس الأموال. لمعالجة عجز ميزان المدفوعات يجب النظر الى مضمون الحسابات كي نحاول تصحيح الخلل خاصة في هذه الظروف الدقيقة.
اذا نظرنا الى عجز ميزان الحساب الجاري وتبعا لصندوق النقد الدولي، نرى ان هذا العجز كان 28% من الناتج المحلي الاجمالي في 2019 وانخفض فيما بعد الى 16% في 2020 ليرتفع بعدها الى 29% من الناتج في 2022 وثم انخفض الى 12,5% في 2023. يعود هذا التقلب الى التغيير الحاصل في الواقع الاقتصادي العام وبالتالي في حجم الاقتصاد أي في الناتج المحلي. أهم مسببات عجز ميزان المدفوعات أو العجز الخارجي هو العجز التجاري الناتج عن الفارق السلبي بين ما نستورد وما نصدر. قيمة صادراتنا ضئيلة حتى لاقتصاد بحجم اقتصادنا. حجم الواردات كبير نسبة لاقتصادنا ويستمر منذ عقود لأن اللبناني يرغب في الاستيراد ولم يبني قاعدة انتاجية تؤهله للتصدير. يحتاج لبنان الى جهود كبيرة تبذل لتصحيح الخلل المالي الخارجي مما يدعم الاحتياطي النقدي الموجود في مصرف لبنان وخارجه أي يساهم في تحسين أوضاعنا.
ما هي السياسات التي يجب تطبيقها لتحسين أوضاعنا المالية الخارجية أي لتقليص الخلل في ميزان المدفوعات علما أن القضاء على الفجوة مستحيل في ظروفنا الحالية:
أولا: زيادة صادرات السلع والخدمات غير المالية. في الخدمات، لا أحد يشكك في جودة الخدمات الصحية والتعليمية والغذائية والاستشارية وغيرها وقدرتنا على تصديرها اقليميا ودوليا. يستطيع لبنان انتاج أكثر بكثير من السلع والخدمات مما يقوم به حاليا. هنالك قطاعات لنا فيها ميزات تفاضلية كالصناعات الغذائية والخشبية والمجوهرات والملابس وغيرها والتي يجب تطويرها لأنها مصدر قوة للاقتصاد اللبناني. هنالك ضرورة لتطوير وتنويع انتاجنا في كل القطاعات وليس فقط تلك التي ذكرنا. اذا أنتجنا بذكاء نستطيع زيادة الصادرات مما يساهم في تقليص الفجوة المالية التجارية الخارجية. هنالك قرار مشترك مطلوب من القطاعين العام والخاص لتطوير القاعدة الانتاجية وايجاد أسواق خارجية للتسويق. دور القطاع الخاص انتاج الجيد بأدنى تكلفة ممكنة. دور القطاع العام تسهيل عمليات الانتاج اداريا والمساعدة في ايجاد أسواق خارجية عبر توقيع اتفاقيات تبادل أصبحت منتشرة دوليا.
ثانيا: تخفيض واردات السلع والخدمات غير المالية وهنا المطلوب من اللبنانيين استهلاك المنتج محليا والعديد منها معروف في الغذاء والملبس والمفروشات وغيرها. اذا استهلكنا أكثر من منتجاتنا الجيدة نخفف خروج رؤوس الأموال ونعزز أوضاع شركاتنا التي تنتج وتبيع منتجاتها في الداخل.
ثالثا: تشجيع الخارج على الاستثمار في لبنان بالرغم من الكارثة المصرفية الحالية والأجواء السياسية الملبدة. طبعا لا يمكن أن نتوقع الكثير في الأوضاع السياسية الحالية لكن يمكن دون شك تحسين الاداء العام لجعل اللبنانيين أولا يستثمرون في لبنان وليس في الخارج. هذا ممكن لأن اللبناني يرغب أصلا في الاستثمار في بلده، لكن الكارثة المصرفية المستمرة أثرت كثيرا على معنوياته وثقته وبالتالي على الحكومات اللبنانية المستقبلية ايجاد حلول نهائية لهذه الأزمة.
رابعا: تشجيع اللبنانيين وغير اللبنانيين المقيمين على تخفيف تحويلات الأموال الى الخارج بل الى الاستثمار في بلدهم ودعم نموه وشبابه. المطلوب من اللبنانيين طوعا الاستثمار أكثر في اقتصادهم وبالتالي ابقاء الأموال أو قسم كبير منها في الداخل لتوسيع الاقتصاد.
اذا قمنا كمجتمع بالخطوات الأربع السابقة، نحول اقتصادنا ضمن النظام الحر الى حيوي يتكل على الداخل للنمو والتنمية. مشكلة لبنان الخارجية دقيقة لكن حلها ليس صعبا بل يتطلب قرارا عاما من القطاعين العام والخاص لتنشيط الاقتصاد وللاعتماد على النفس في الانتاج والاستهلاك والاستثمار. يجب وقف النزيف المالي الحاصل وجمع الشمل القطاعي في اتجاه واحد أي جعل لبنان من جديد مضرب مثل للاقتصادات الصغيرة المنتجة والرائدة.