لنفترض لوهلة أنّ الانتخابات اللبنانيّة العامّة حصلت وتمكّن «حزب الله» والمتحالفون معه من إحراز أكثريّة نيابيّة. في هذه الحال، نتخيّل أنّ وسائل الإعلام ستغطّي الخبر بعبارات توكيديّة من نوع: الانتخابات تكرّس شرعيّة المقاومة. «حزب الله» سيقرّر مَن الذي سيكون رئيس الجمهوريّة المقبل ومَن الذي سيشكّل الحكومة بل الحكومات. تذليل آخر عقبة أمام العلاقة بالنظام السوريّ. إيران تحرز انتصاراً كبيراً في لبنان…
إذاً، سيحقّق «حزب الله» والمتحالفون معه مكاسب كبيرة يضيفونها إلى المكاسب الكبيرة الأخرى المتحقّقة لصالحهم.
لنفترض، في المقابل، أنّ الانتخابات اللبنانيّة حصلت ولم يتمكّن «حزب الله» والمتحالفون معه من إحراز الأكثريّة النيابيّة. في هذه الحال، نتخيّل أنّ وسائل الإعلام ستغطّي الخبر بأسئلة من نوع: هل يقبل «حزب الله» بنتيجة الانتخابات وبالحكومة التي سوف تنبثق منها؟ هل يوافق «حزب الله» على مرشّح لرئاسة الجمهوريّة تختاره الأكثريّة النيابيّة الجديدة وتصوّت له؟ هل تتمكّن هذه الأكثريّة من أن تفعل ما عجزت عنه أكثريّات برلمانيّة سابقة لم تستطع أن تحكم؟ هل تقف طهران ودمشق مكتوفتي الأيدي أمام نتائج الانتخابات النيابيّة في لبنان؟
الفارق، هنا، يلخّص أموراً كثيرة. في الحالة الأولى، الانتصار الانتخابي يكرّس ما فرضه توازن قوى أنتجه السلاح. في الحالة الثانية، الانتصار الانتخابي يجدّد مأزق المنتصرين، وهو مأزق متعدّد الأوجه والأشكال.
في الحالة الأولى، المنتصر يصل إلى الذروة: يحرز «حزب الله» انتصاراً كاملاً. يصبّ انتصاره مباشرة في القرار السياسيّ. في الحالة الثانية، المنتصر يباشر رحلة من غير الواضح إلى أين ستفضي به. إنّه لا ينتصر لكنّه يحظى بوثيقة تنضمّ إلى الأرشيف.
في الحالة الأولى، توكيد لا يقبل التأويل. في الحالة الثانية، أسئلة قد تنحطّ إلى حزازير.
إذاً، الأهميّة السياسيّة لا تأتي من الانتخابات بذاتها، أو من «إرادة الشعب». إنّها تأتي من طبيعة الفائز الذي يعطيها ترجمتها السياسيّة (في الحالة الأولى) وقد يسلبها أي احتمال لترجمة كهذه (في الحالة الثانية).
تقول هذه المقارنة إنّ في لبنان مواطنين يصنعون السياسة، وأنصاف مواطنين تتحكّم بهم سياسة يصنعها غيرهم. الأوّلون منتصرون بتفاوت. الأخيرون مهزومون بتفاوت.
لكنْ أيضاً، وبفعل السلاح أساساً ومعه عوامل أخرى، سيكون انتصار «حزب الله» انتصاراً لـ«حزب الله». أمّا «انتصار» خصوم «حزب الله»، أي مجرّد نيلهم الأكثريّة النيابيّة، فسيكون صعباً تنظيمه في تراتُب سياسي متّفق عليه.
في الجبهة الأولى، يلعب حسن نصر الله دور مرجع التحكيم الأوحد المُجمَع عليه. مصالحته جبران باسيل وسليمان فرنجيّة في مقرّه بالضاحية الجنوبيّة تعلن أنّ طاقته التحكيميّة تعمل في الطوائف والمناطق الأبعد. صلته بـ«حركة أمل» مستقرّة وتضمن له ولاء طائفته. صلته بإيران وسوريّا والمقاومة تضمن له اختراقاته في باقي الطوائف والمناطق. ضعف الطوائف والمناطق الأخرى وتفتّتها يتيحان له تحقيق تلك الاختراقات.
في الجبهة الثانية ماذا نجد؟ انشقاقاً لم يمكن رأبه بين قوى 14 آذار وقوى 17 تشرين (المجتمع المدنيّ). «استراتيجيّة» حريريّة تأدّى عنها تشرذم الأصوات السنّيّة وخفض عتبة الانتصار أمام مرشّحي «حزب الله» في المناطق المختلطة، وتصوير المعركة الأساسيّة على أنّها في مواجهة فؤاد السنيورة وسمير جعجع. تعثّر العديد من الائتلافات والتوافقات، إمّا بسبب موقف الحريري (منع تحالف «الحزب الاشتراكيّ» و«القوّات اللبنانيّة» في البقاع الغربي مثلاً)، وإما بفعل حساسيات تافهة، قديمة أو جديدة، لم يتغلّب عليها سياسيو العصبيّات الصغرى (ألا يتّفق حزبا «الكتائب» و«القوّات» كمثل غير حصريّ). وأخيراً، وهو تحصيل حاصل، عدم وجود مرجع تحكيم مجمع عليه.
إنّ التفتّت اللبناني الشهير مضبوط ومنظّم في الجبهة الأولى، بحيث تبقى جبهة، لكنّه مطلق وسيّد الموقف في الجبهة الثانية التي هي جبهات.
ما إن نضيف إلى اللوحة الإجماليّة العاملَ الذاتي هذا، وبالأخصّ فعلة سعد الحريري، حتّى نخرج بنتيجة قاتمة جدّاً.
هذا لا يعني أنّ الانتخابات إذا ما أجريت ستكون عبثاً محضاً أو جهداً يُستحسن تفاديه. فحتّى الحصول على وثيقة تقدّمها لنا وللعالم الخارجي وللتاريخ حول أوضاعنا، وحول فتك السلاح بالسياسة في لبنان، يبقى مهمّة تستحقّ المحاولة. لكنْ يُستحسن ضبط المبالغات وضبط التعويل على الانتخابات وافتراض أنّها ستكون انتقالاً مضموناً وسلساً إلى وضع آخر، وضعٍ أفضل بفارق نوعيّ. الأمر ليس هكذا، ولن يكون. وبعد كلّ حساب، يستطيع السلاح تعطيل البرلمان ساعة يشاء!