بفارق أيام تلاحقت زيارات الديبلوماسيين من مختلف العواصم مع الحَراك الذي قاده سفراء الخماسية الخاصة بلبنان، وكان واضحاً أنّ الطروحات تناولت ملفي إنهاء حرب الجنوب وانتخاب الرئيس، في محاولة لم تكتمل بعد للفصل بين الاستحقاقين. وما ظهر لافتاً انّ هناك موقفاً أميركياً وإيرانياً موحّداً في شكله ومضمونه في النظرة إلى ما يمكن القيام به وخصوصاً في ملف انتخاب الرئيس. وهذه هي المؤشرات والدلائل الكافية.
من دون التقليل من أهمية اي حراك ديبلوماسي يقوده اي مسؤول دولي وأممي في اتجاه لبنان، سواءً كان على مستوى وزير للخارجية او موفد رئاسي خاص بالملف اللبناني، عدا عن الوفود الديبلوماسية والعسكرية التي تقوم بمهمّات خاصة في لبنان، فقد عكست هذه الهجمة التي شهدتها الساحة اللبنانية ما يثير الارتياح لدى المسؤولين على مختلف المستويات السياسية والعسكرية. ومردّ ذلك الى انّ العالم مهتم لما يجري عليها في مثل الظروف الصعبة التي تشهدها البلاد، بعدما تناسلت الأزمات وتشابكت السياسية والدستورية والعسكرية والأمنية ومعها تلك المالية والمعيشية والاجتماعية، إلى درجة لا يمكن مقارنتها بأي أزمة يعاني منها اي بلد في العالم.
ومهما اختلفت الطروحات والمشاريع المقترحة قياساً على تنوّع الموفدين ومعها النيات والقدرات المختلفة للزوار، فإنّ تقاطعاً كبيراً ظهر في ما بينها على اكثر من مستوى، وخصوصاً لجهة المساعي المبذولة من اجل انتخاب الرئيس مهما اختلفت أولويات ما هو مطروح من سيناريوهات وأفكار. فالجميع وبلا استثناء، أجمعوا على التحذير من اي «دعسة ناقصة» او أي «خطأ غير محتسب» يمكن ان يؤدي الى تفجير الوضع العسكري والأمني، والتقوا على التعبيرعن مخاوف غير مسبوقة من فقدان «الرأس اللبناني» الذي يمكنه أن يتولّى التنسيق بين مختلف السلطات والمؤسسات الدستورية في البلاد، وخصوصاً انّها مقبلة ومعها دول المنطقة، على مجموعة من الاستحقاقات الاقليمية والدولية الكبرى. وهي حالة تفرض وجود دولة لها كيانها، وسلطات ومؤسسات بكل المواصفات الدستورية، ولا تخضع شرعية اي منها الى اي تشكيك، كالتي تعاني منه حكومة تصريف الأعمال وآلية العمل المعتمدة في ادارة شؤون البلاد والعباد، ومقاربتها لكل القضايا والملفات، وما عبّر عنه المجلس النيابي من عجز لجهة القيام بمهماته الدستورية، ولا سيما منها انتخاب رئيس الجمهورية، قبل القيام بأي عمل آخر كما يقول الدستور.
وعلى هامش هذه الملاحظات، وما تعبّر عنه الإشارات السلبية التي اوحت بها تحذيرات الموفدين الدوليين، توقفت المراجع الديبلوماسية والسياسية أمام النقاط المشتركة التي عبّرت عنها بعض الطروحات، ولا سيما منها التي عبّرت عنها الإدارتان الاميركية والايرانية من موضوع انتخاب الرئيس، عندما تطابقت وجهتا النظر على ضرورة اطلاق مبادرة داخلية تؤدي الى تقصير مهلة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها، من دون تجاهل انّهما قد توافقا مع بقية نظرائهما على مثل هذا التوجّه، وإن اختلفت الطروحات والسيناريوهات حول هذه المحطة الدستورية والخطوات المؤدية اليها.
وفي التفاصيل، التقت المراجع الديبلوماسية والسياسية على القول، إنّ وزير الخارجية الايرانية حسين امير عبداللهيان عبّر بوضوح في أثناء جولاته الاخيرة على المسؤولين اللبنانيين عن موقف بلاده من مختلف التطورات، لافتاً إلى انّه لن يعترض إن نجحت المساعي الجارية للفصل بين الملفين العسكري والدستوري. ذلك انّه من شأن اللبنانيين الربط القائم بين ما يجري في فلسطين المحتلة والجهود المبذولة من اجل ان ينجز اللبنانيون الاستحقاق الدستوري بانتخاب الرئيس من عدمه. فلكل من الملفين اولويتهما لدى اللبنانيين، وإن تمكنوا من انتخاب الرئيس ستكون خطوة مباركة. فبلاده بريئة من الاتهامات التي تطاولها من فريق لبناني او اكثر، كما من القول إنّها تصادر قرار اللبنانيين وتمنعهم من التوافق على الرئيس. وهي لم ولن تكون عائقاً أمام ما يمكن ان يتفقوا عليه. وأنّها ستكون من أوائل المهنئين للرئيس الجديد أياً كان، فهو لمستحق لإجماع اللبنانيين متى تحقق ذلك. وانّ بلاده ستجدد امامه تعهداتها السابقة بالمساعدة وتقديم العون في المجالات التي تحدثت عنها أكثر من مرة، ولا داعي لتكرار الحديث عنها، لربما قد ملّ منها الجميع.
وكما التقت المراجع عينها على هذه القراءة للموقف الايراني، فقد كشفت ايضاً عن موقف اميركي مماثل. وزادت القول، انّه ومهما اختلفت منطلقات الطرفين وخلفيات كل منهما في اعتبارهما ينطلقان من محورين متنازعين على أكثر من ساحة، فقد عبّرت السفيرة الاميركية الجديدة ليزا جونسون أمام من التقتهم في أكثر من لقاء موسّع وثنائي أبان جولتها التعارفية – على من تعرفهم من قبل وممن تعرفت اليهم بعد عودتها الى بيروت – عن انّ بلادها لا يمكن ان تصل الى مرحلة الحديث عن أي اسم لرئاسة الجمهورية، وهي تتطلع الى مرحلة من التفاهمات الداخلية التي تنتج وتفضي الى إنجاز هذا الخيار الدستوري اللبناني الخالص الذي تنتظره، لتقدّم أمامه أوراق اعتمادها كسفيرة لبلادها.
ولمن يبحث عمّا يؤكّد هذا الموقف يمكنه العودة الى محضر الجلسة اليتيمة التي عقدها سفراء مجموعة «لقاء باريس الخماسي» مع رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل فترة، والذي لم تُنشر كل وقائعه بعد. ففي الوقت الذي تناوب فيه السفراء الخمسة على الحديث عن مواقف بلادهم في شأن الوضع في لبنان من مختلف جوانبه العسكرية والسياسية، بقيت الكلمة الاخيرة للسفيرة جونسون، طالما أنّها آخر من انضمّ الى هذه المجموعة الديبلوماسية. ولما عبّر كل منهم بلغة بلاده الاصلية، اي بالعربية والفرنسية، في ظل فقدان اي مترجم مشارك في اللقاء، بادرت السيدة جونسون الى القول بصراحة ما معناه «انا لم اعرف ولم افهم ما قاله زملائي السفراء في مداخلاتهم». ولكن «ما يهمّني ان اعبّر عنه هو أنّ على اللبنانيين ان يختاروا رئيسهم بأنفسهم، فليس لبلادي «مرشح أميركي» محدّد. وهو موقف ثابت لم يتبدّل حتى اليوم مهما قيل من هنا او هنالك. وما اعتقده ايضاً انّه ليس لدى اي منا انا وزملائي السفراء مرشح رئاسي ايضاً. وهذا ما أجمعنا عليه في لقاءاتنا السابقة».
وعليه، تنتهي المراجع نفسها لتشير الى أنّ مثل هذا التلاقي حول اهمية انتخاب الرئيس لا يقف عند موقف الجانبين الاميركي والايراني فحسب، وما هو معلن من مواقف يضع زملائهما في خانة واحدة. ذلك أنّه لكل من بقية الاطراف موقفه ودوره في ما يمكن أن تقود إليه مساعي إعادة بناء وتكوين السلطة في لبنان. وهو واقع يفرض مزيداً من المسؤوليات على عاتق القادة اللبنانيين، الذين لم يتفاهموا بعد على سبل إتمام الاستحقاق. وإن اعتبر البعض انّ في هذه المعادلة ما يفيض من «السوريالية»، فإنّ واقع الأمر يؤدي الى قراءة مختلفة، لا تلغي دور الخارج توصلاً الى التفاهم على من يقود المرحلة المقبلة من قصر بعبدا. والى تلك المرحلة ستبقى حال المراوحة قائمة بلا اي سقف، ومعها الجدل حول الخيارات المختلفة، في ظل معادلة استمرار الاتهامات المتبادلة بين من هم على لائحة واحدة تجمع «العاجزين» مع من يعتقدون أنّهم «قادرون ولا يريدون»، ذلك أنّ النتيجة واحدة.