بين محادثات رئيس الحكومة سعد الحريري في واشنطن، وخطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في بيروت، تمظهر المشهد اللبناني بكل ملابساته، وبأبشع صوره، وبأسوأ تردياته، حيث برزت صورة الانقسام اللبناني، الرسمي والشعبي، من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، حول التطورات المتلاحقة في الإقليم، وخيارات المعركة العربية ضد التمدد الإيراني في المنطقة، وتصاعد العقوبات الأميركية والغربية على إيران وحزب الله.
علامات الاهتمام والود التي رافقت محادثات الحريري في العاصمة الأميركية، لم تقلل من وطأة الحديث عن العقوبات الأميركية الجديدة ضد حزب الله، والتي قد تمتد لتصل إلى حلفائه والمتعاونين معه، من أحزاب وهيئات وأفراد.
لقد تأكد لمن يعنيه الأمر، أن الإدارة الأميركية ليست بوارد التراجع عن الخطوات التصعيدية المتوقعة ضد الحزب والشخصيات المتعاونة معه، كما أن لا قدرة للحريري على التأثير على القرار الأميركي، وثني الإدارات المعنية عن المضي قدماً في مسلسل العقوبات، الأمر الذي يعني أن مرحلة «التفهم الأميركي» لظروف لبنان وخصوصيته، وموازين القوى فيه قد انتهت، لأن نتائجها جاءت على عكس التوقعات السابقة، حيث سجل حزب الله تقدماً متزايداً في الإمساك بالقرار اللبناني، وفرض هيمنته على المفاصل الأساسية في الدولة اللبنانية، فيما تراجع نفوذ خصومه السياسيين، وخاصة ما كان يُعرف بقوى ١٤ آذار، في الدولة اللبنانية، وأصبح بعضهم أسير اللعبة التي يديرها حزب الله، مما يعني أن هذا الفريق، الذي يُعتبر حليفاً لواشنطن، ليس قادراً على الحد من سيطرة الحزب على الوضع اللبناني، ولا على الحفاظ على قدرة الدولة اللبنانية في فرض سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، وهي الاعتبارات التي كانت تشكل جزءاً من مراعاة الخصوصية اللبنانية.
استمرار الدعم للجيش اللبناني، وعدم التفريط بالاستقرار الاجتماعي في لبنان، من خلال توفير الحد الأدنى من الدعم الاقتصادي، والحؤول دون اهتزاز الوضع النقدي، يؤكد أن واشنطن ليست بوارد التخلي عن لبنان، بل لعلها تخوض حالياً معركة استعادة وطن الأرز من النفوذ الإيراني، المتمثل في سيطرة حزب الله على الأوضاع الراهنة في البلد، من خلال التشدد في فرض المزيد من العقوبات على الحزب وحلفائه، وتجفيف المصادر المالية التي يعتمد عليها في تمويل نشاطاته.
الجانب الآخر من المشهد الانقسامي اللبناني جسَّده خطاب السيد حسن نصر الله، الذي كان على طرف النقيض مع محادثات الحريري في واشنطن، من خلال تأكيد تمسكه بالمنطلقات والأهداف التي يعمل لها الحزب منذ تأسيسه، سواء بالنسبة للصراع مع العدو الصهيوني، أم في ما يتعلق بالدور الإقليمي المنسجم مع السياسة الإيرانية في المنطقة، فضلاً عن تشديد القبضة على الوضع الداخلي.
وجاء كلام رئيس الحرس الثوري الإيراني عن قدرة حزب الله الصاروخية لوحدها على تدمير إسرائيل، ليكمل ما ورد في خطاب نصر الله عن استعداد الحزب لتدمير الجيش الإسرائيلي أمام كاميرات النقل التلفزيوني المباشر، وكأن طهران تجدد رسائلها لخصومها بأن الحزب وحلفائها من الميليشيات المماثلة في المنطقة تعمل بكامل جهوزيتها، ووفق الخطط الإيرانية، على النحو الذي يجري حالياً على أرض اليمن، والهجمات التي يشنها الحوثيون على الأهداف السعودية الاستراتيجية.
هذا الواقع الانشطاري الذي يشل القدرة اللبنانية على الابتعاد عن النيران المشتعلة في المنطقة، بعدما دخل حزب لبناني طرفاً مباشراً فيها، دون قرار من الدولة، ومتجاهلاً رغبة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين بالنأي بالنفس عن محاور الصراع المحتدم في الإقليم، يفتح الأبواب أمام أسوأ الاحتمالات على الوضع الداخلي، لا سيما وأن العقوبات سترفع منسوب الشحن السياسي، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الأزمة الاقتصادية الراهنة تفاقماً.
وليس مستبعداً أن تطال الاهتزازات الداخلية الوضع الحكومي، الهش أساساً، في حال عجزت الحكومة الحالية عن مواجهة تحديات المرحلة المقبلة، فيصبح لبنان عندها، أكثر من أي وقت مضى، على عتبة «الدولة الفاشلة».
فهل يستطيع «العهد القوي» التغلب على هذه التهديدات المحدقة بالبلاد والعباد من كل حدب وصوب؟