عُرف اللبنانيّون بأفكارهم الريادية وإنجازاتهم ونجاحاتهم حول العالم، لا سيما أنّهم عُرفوا خصوصاً بمرونتهم ومثابرتهم في مواجهة جميع الأزمات، الصعبة والمعقّدة.
كما أنّ الشعب اللبناني عُرف أيضاً بأنّه الشعب الذي لا يستسلم ولا يموت، لكن لماذا هذه المرونة تحوّلت من نقطة قوة إلى نقطة ضعف؟
إنّ المرونة التي عُرف اللبنانيّون بها في العالم هي من أهم ميزات هذا الشعب، الذي واجه حروباً عدة، وتدميراً وتهجيراً، وأعاد البناء مرّات عدة، من الحرب الأهلية الكارثية، (تُذكر ولا تُعاد)، من العام 1975 إلى العام 1990، فعدوان سنة 2006، إلى تفجير 4 آب 2020، فالقنبلة النووية المالية، في العام 2019، ولا يزال الشعب اللبناني يتمسّك في حبّه للحياة ولا يستسلم.
هذا الشعب نفسه الذي حينما حُرم من الكهرباء إتكل على المولّدات الخاصة، وحينما حُرم من الفيول إتكل على الطاقة الشمسية، وعندما انقطعت الإتصالات، أشبك مع الإتصالات في قبرص، وعندما اضطرّ إلى الإغتراب، بنى لبنان صغيراً أينما ذهب.
فهذه المرونة أصبحت من جيناتنا منذ عقود، وتعلّمنا أن نتكل على أنفسنا بأقل الحاجات البديهية والأساسية والإنسانية. أمّا الدولة فاعتدنا عليها أيضاً، وهمُّها الوحيد التحاصص وتوزيع المقاعد والمشاريع، ونهب ممتلكات وأرزاق المواطنين، واللجوء إلى الضرائب والرسوم لتمويل فشلها.
إنّ المرونة للرياديِّين المغتربين سمحت لهم ببناء شركات ضخمة في كل المجالات وفي كل أنحاء العالم، وحتى في البلدان التي كانت تعاني اضطرابات وحروباً، فواجهوا كل التداعيات على المدى القصير، وبنوا النجاحات على المدى المتوسط والبعيد. أمّا الرياديّون المُقيمون فبنوا أيضاً شركات مختلفة في كل المجالات، لكن كلما رفعوا رؤوسهم فوق المياه دُمّر كل ما بنوه، وأُجبروا على التراجع خطوات إلى الخلف، فمرونتهم ساعدتهم في إعادة البناء، لكن دُمّر كل ما بنوه مرّات عدة، وأعادوهم إلى ما تحت الصفر.
فهذه المرونة المعروف عنها دولياً، أصبحت نقطة ضعف، إذ أصبح يتكل عليها السياسيّون والمسؤولون وحتى المجتمع الدولي، مستغلّين قوة اللبنانيِّين والقطاع الخاص، وعزيمتهم ومثابرتهم وعنفوانهم وإرادتهم الصلبة لإعادة البناء مرّات ومرات.
وأصبحت المرونة اللبنانية نقطة ضعف، لأنّه لم تَعُد هناك قيمة للإنهيار والتدهور، فأصبحت هذه المرونة نقطة ضعف، لأنّ الكل يتكل عليها ولا قيمة للحروب والتدمير، لأنّهم سيلجأون للمرونة اللبنانية لإعادة البناء بعد حروب الآخرين على أرضنا.
فأصبح لبنان صندوق بريد للرسائل المباشرة وغير المباشرة، وأصبح اللبنانيّون السجناء يُعيدون البناء كأشغال شاقة. فنقول بصوت عالٍ، لا نريد أن نكون مرنين، ولا نريد إعادة البناء من دون أسس ورؤية.
في المحصّلة، إنّ المرونة اللبنانية المعروف عنها دولياً، تحوّلت من نقطة قوة إلى نقطة ضعف، إذ لا يريد اللبنانيّون والقطاع الخاص الإتكال عليها بعدئذ، وإعادة البناء مرّات عدة، بعد التدمير السياسي والمفاوضات العقيمة. إتكالنا اليوم هو على نهاية الحرب، لكن أيضاً الحروب وبناء سلام مستدام وحقيقي، فهذا الشعب المنكوب والمذلول والمنهوب، لن يسمح بعدئذ بأن يتحكّم السياسيّون بمرونته، والذين يعتبرونها ورقة تفاوض بين أيديهم.