ارتدت النقاشات التي شهدها مجلس النوّاب اللبناني قبل نيل حكومة الرئيس سعد الحريري الثقة طابعا فولكلوريا في الظاهر، لكن للسجالات هذه دلالات كثيرة وعميقة في الوقت ذاته. لعلّ افضل تعبير عن هذا الطابع النقاش الحامي الذي كان موضوعه الرئيس بشير الجميل الذي اغتاله عميل للنظام السوري في العام 1982 واضطرار «حزب الله» الى التراجع عن الإساءة الى الرئيس اللبناني الراحل الذي لم يتمكن وقتذاك من ممارسة مهماته.
هل عكس الاعتذار نوعا من التواضع بدأ الحزب، الذي ليس سوى ميليشيا مذهبية مسلّحة، ممارسته؟ ثمّة من يقول ان الحزب بدأ يدرك ان ليس من خيار آخر امامه في نهاية المطاف سوى التفكير في كيفية التخلي عن فكرة تحويل لبنان «جمهورية إسلامية» يحكمها الوليّ الفقيه من طهران. كان الامر مجرّد اعتذار عن كلام بذيء تفوّه به احد نواب الحزب. لكنّه اعتذار ينمّ عن بداية ولادة وعي للتحولات التي تشهدها سوريا حيث لا مستقبل للنظام القائم. الأهم من ذلك ان هناك في الوقت ذاته بداية تغيير كبير في العراق تعبّر عنه الأكثرية الشيعية التي أصبحت ترفض الهيمنة الايرانية بكلّ اشكالها.
لم يكن من خيار آخر امام النوّاب اللبنانيين غير إعطاء الثقة لحكومة تضمّ أكثرية ساحقة من الكتل الموجودة في البرلمان، بما يتناقض كلّيا مع مفهوم الديموقراطية البرلمانية حيث أكثرية تحكم واقليّة تحاسب الحكومة في مجلس النوّاب.
متى وضعنا جانبا الخطابات التي القاها النواب قبل جلسة الثقة، يبقى ما يجب ان نتذكره من كلّ تلك الحقبة الطويلة التي سبقت تشكيل الحكومة. ما يفترض ان نتذكّره هو ان الازمة الحقيقية في لبنان هي ازمة «حزب الله» الذي فرض «معايير» جديدة على تشكيل الحكومة. فرض نصرالله هذه «المعايير» في ظلّ ازمة اقتصادية عميقة يعاني منها البلد بسبب سلاح «حزب الله» وممارساته التي كانت موجهة لكلّ عربي يريد زيارة لبنان والاستثمار فيه. اكثر من ذلك، وجد النظام المصرفي في لبنان نفسه في وضع لا يحسد عليه في ظلّ الاجراءات الاميركية التي تطاول ايران و»حزب الله»…
على من يريد الاعتراض على هذا الكلام المرتبط بأزمة «حزب الله» ان يتذكّر ان كلمة «معايير» هي التي استخدمها حسن نصرالله الأمين العام للحزب في مرحلة ما قبل تشكيل الحكومة. استند نصرالله الى التركيبة الجديدة لمجلس النوّاب، الذي ليس سوى نتاج لقانون انتخابي عجيب غريب وضعه «حزب الله»، كي يباشر الحديث عن هذه «المعايير». لم يكن من هدف لهذا القانون سوى شقّ السنّة في لبنان واضعاف سعد الحريري. وهذا ما يفسّر ذلك الإصرار على توزير سنّي من توابع «حزب الله» قبل الافراج الايراني عن الحكومة اللبنانية. كذلك، كان هناك إصرار على شقّ الدروز في سياق الحملة التي يشنّها النظام السوري على الزعيم الوطني وليد جنبلاط الذي حافظ على وحدة الطائفة وعمل من اجل منع انخراط دروز سوريا في حلف الاقلّيات الذي هو في أساس الايدولوجية التي آمن بها حافظ الأسد ووريثه بشّار. يُعاقب وليد جنبلاط حاليا على جهوده من اجل الحؤول دون تورّط دروز سوريا في الحرب التي يشنّها نظام اقلّوي على شعبه وذلك من منطلق وطني وعربي وموقع الدروز في المنطقة لا اكثر ولا اقلّ. سينصف التاريخ وليد جنبلاط الذي واجه النظام السوري بعدما عرف طبيعته وحقيقة ما هدف اليه في كلّ وقت، ايّام الأسد الاب والأسد الابن، لا فارق.
في نهاية المطاف. حقق «حزب الله» ما يعتبره انجازين مهمين عن طريق وزير سنّي تابع له وآخر درزي يعتبره في جيبه. لكنّ الهمّ الأكبر للحزب كان وزارة الصحّة التي اصرّ على توليها عبر طبيب «غير حزبي». يعكس هذا الإصرار جانبا مهمّا من ازمة الحزب الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الايراني. ارسل هذا الحزب، بناء على طلب ايران شبانا لبنانيين الى سوريا للمشاركة في الحرب التي يشنّها النظام على شعبها. كلفت هذه الحرب الحزب غاليا. لم يفطن الحزب الى كلفة خوض مثل هذه الحرب على شعب بكامله. لم يعد امامه الآن، في ضوء تأثر ايران بالعقوبات الاميركية، سوى اللجوء الى الدولة اللبنانية لتغطية نفقات مشاركته في الحرب على شعب شقيق من منطلق مذهبي ليس الّا. لم يدرك «حزب الله»، بكلّ بساطة، ان كلفة جرحى تلك الحرب ستكون كبيرة وغالية وان ايران ذات الاقتصاد الهشّ لن تكون قادرة على تحمّلها. هذه باختصار شديد قصة تشكيل الحكومة اللبنانية بعد ثمانية اشهر واسبوع من تكليف سعد الحريري هذه المهمّة بعد انتخابات أجريت في السادس من أيّار – مايو 2018.
إضافة الى كلفة معالجة الجرحى الذين أصيبوا في سوريا، سيكون على «حزب الله» التفكير في مرحلة ما بعد الحرب الداخلية السورية. سيكون عليه الاحتماء بالنظام اللبناني كي يتفادى غضب الشعب السوري. لن يكون في استطاعة ايران، مهما فعلت من إبقاء بشّار الأسد في السلطة، ولو شكليا. فوق ذلك كلّه، لن تكون قادرة على البقاء في سوريا على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها من اجل تغيير التركيبة السكانية لهذا البلد. لن تتمكن ايران وأدوات ايران من تجاوز واقع يتمثّل في ان الأكثرية في سوريا هي أكثرية سنّية وانّ على أي نظام جديد سيقوم في هذا البلد في المستقبل أخذ هذه الحقيقة في الاعتبار.
ما يمكن ان يكون له تأثير اكبر على واقع «حزب الله» في لبنان هو الوضع العراقي. ففي الثاني عشر من ايّار – مايو 2018، أي بعد ستّة أيام من اجراء الانتخابات في لبنان، كانت هناك انتخابات في العراق. كان الهدف الايراني في العراق واضحا. تمثّل هذا الهدف في التخلّص من حيدر العبادي الذي وضع، عندما كان رئيسا للوزراء، مصلحة العراق والعراقيين فوق مصلحة ايران لدى طرح موضوع العقوبات الاميركية الجديدة على «الجمهورية الإسلامية».
من سوريا، حيث تلعب روسيا لعبة خاصة بها لا تستطيع من خلالها الّا مراعاة إسرائيل الى ابعد حدود، الى العراق، الى لبنان، يتأكد ان المنطقة كلّها تمر بمرحلة انتقالية. الثابت في هذه المرحلة ان رهانات ايران تبدو خاسرة. تستطيع تدمير لبنان وتستطيع تدمير سوريا وتستطيع تدمير العراق. لكنّ الأكيد انّ ليس في استطاعتها البناء. المشكلة الايرانية تكمن بكلّ بساطة في ان ليس لدى «الجمهورية الإسلامية» التي أسسها آية الله الخميني قبل أربعين عاما نموذج ناجح تقدّمه للمنطقة والعالم. كلّ ما استطاعت ايران تصديره، الى جانب النفط والغاز طبعا، هو ميليشيات مذهبية لا تعني شيئا غير القدرة على التخريب في العراق وسوريا ولبنان… واليمن. هل بدأ «حزب الله» يعي هذا الواقع فبدأ بممارسة التواضع لبنانيا؟