Site icon IMLebanon

“القوّات” عندما تُسمّي…

 

 

منذ اندلعت ثورة 17 تشرين بات من المتفق عليه أنها كانت ثورة ضد التراكمات التي أدت إلى الإنهيار الكبير الذي بدأ منذ 30 عاماً وهذا يعني بالتحديد أنه نتيجة ما حصل منذ الإنقلاب على الطائف في العام 1990 على مرحلتين: الإنقلاب الأول الذي قاده العماد ميشال عون رئيساً للحكومة العسكرية والإنقلاب الثاني هو الذي قام به عهد الوصاية منذ انتخاب الرئيس الياس الهراوي والطريقة التي أديرت بها الدولة أو ما تبقى منها وكرست وجود طبقة سياسية لا تعير لمفهوم القيم والإدارة والمؤسسات أي اعتبار.

منذ ذلك التاريخ كانت القوات اللبنانية قد بدأت معارضة ذلك النهج الذي أوصل إلى هذا الإنهيار.

 

قبل العام 1988 لم يكن هناك عجز في موازنة الدولة ولم يكن هناك دين عام يذكر. لم يسبق خلال كل العهود التي تعاقبت منذ الإستقلال أن استدانت الدولة على رغم أنها كانت قد بدأت إنشاء المؤسسات والمشاريع من الصفر لكي تكون هناك بنية دولة تستطيع أن تبقى وتستمر. صحيح أن الإدارة لم تكن لتخلو من بعض حالات الفساد ولكن كل ذلك كان يبقى تحت سقف المحاسبة والمعقول الذي لا يفني خزينة الدولة ولا يتحول إلى قاعدة عامة وإلى عملية نهب منظم. بعد العام 1990 فلتت الأمور ولم يكن هناك من يحاسب أو يوقف هذه العملية ويضع لها ضوابط وقيود لأن الفساد صار شاملاً تقريباً.

 

“القوات” منذ 1992

 

لقد وقفت القوات اللبنانية ضد سياسة عهد الوصاية منذ بدأ تطبيقها خلافا للأصول الدستورية والميثاقية والوطنية التي أرادها الطائف واعتمدت أساس التبعية والولاء والزبائنية. لم توافق القوات على الإنضمام إلى حكومة الرئيس الياس الهراوي الأولى التي تشكلت بعد انتخابه على أثر اغتيال الرئيس رينيه معوض لأنها كانت تخشى الوقوع في فخ الخلاف الكبير مع العماد ميشال عون. ولكنها لم تستطع على رغم ذلك تلافي هذا الأمر لأن العماد عون أراد أن يلغي اتفاق الطائف من خلال حرب الإلغاء التي شنها على القوات في 31 كانون الثاني 1990 وانتهت بأن وضعت الطائف في قبضة الوصاية السورية.

 

بعد “الطائف”

 

كانت “القوات” بعد الطائف مع حكومة مستقلة على قياس الرئيس رينيه معوض وقد سعى فعلاً لتشكيلها رافضا الودائع السورية فيها وقد تجلى هذا الأمر في اللقاء الذي حصل بينه وبين نائب الرئيس السوري وقتها عبد الحليم خدام عندما زاره في دارته في إهدن وكان يريد أكثر من ذلك أن يسعى للتفاهم مع العماد عون وأن يحصل انسحاب للجيش السوري من الشمال ليكون هذا الأمر ورقة قوية في يده في مواجهة تمسك عون بالسلطة.

 

أراد عهد الوصاية بعد إزاحة العماد عون من قصر بعبدا أن يمسك بكل مفاصل الدولة اللبنانية، ومنذ البداية اختارت القوات أن تعارض. قبلت بتسمية روجيه ديب وزيراً ممثلا لها في حكومة الرئيس عمر كرامي بعدما رفض الدكتور سمير جعجع تسميته وزيراً ولكن هذا الأمر لم يلغِ معارضتها واتهامها الدائم بأنها تسعى للعرقلة. وعلى رغم معرفتها بالثمن الذي يمكن أن تدفعه تمسكت القوات بالمعارضة.

 

معارضة واعتقالات

 

ملفات كثيرة فتحت ضدها. اعتقالات طالت الآلاف من كوادرها الذين أجبروا على توقيع أوراق تجبرهم على عدم التعاطي بالعمل السياسي والكثيرون منهم أجبروا على الهجرة. أحد عشر عاما بقي رئيسها الدكتور سمير جعجع في المعتقل ولكن على رغم كل ذلك بقيت القوات ملتزمة الخط التاريخي والإستراتيجي الذي نشأت عليه وتأسست. وعلى مدى تلك الأعوام قاومت كل محاولات الترغيب والترهيب وكانت في الخط المقاوم للوصاية واختارت الإنضمام إلى لقاء قرنة شهوان الذي حمل عبء المطالبة بالسيادة والحرية والإستقلال تحت عباءة بطريرك لبنان الكبير مار نصرالله بطرس صفير. وعندما ذهبت إلى التحالف الواسع مع القوى السيادية في انتخابات 2005 كان الدكتور سمير جعجع لا يزال معتقلا وكانت تدرك وقتها أيضا أن عليها أن تقاتل من أجل أن يكون تمثيلها على قدر حجمها وتضحياتها حتى مع الحلفاء، وعلى رغم ذلك لم تسأل أيضا عن حجم مشاركتها في حكومة ما بعد تلك الإنتخابات التي كانت برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة عندما تمثلت بالوزير جو سركيس لأنها كانت تضحي من أجل أن ينجح التحالف. في تلك المرحلة وقبل الإنتخابات كان لقاء سمير جعجع الأول مع سعد الحريري في زنزانة وزارة الدفاع عندما تم التأكيد على استمرار التحالف.

 

لم يكن سمير جعجع يعرف سعد الحريري ولكنه كان يعرف والده رفيق الحريري وقد تم تحميلهما معا مسؤولية “مؤامرة” إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في انتفاضة 7 ايار 1992. سعد الحريري أيضا لم يكن يعرف سمير جعجع ولكن كان من الواضح أنه وقف على حقيقة ما فعله سمير جعجع و”القوات” والتزامهما الواضح بالمبادئ بعيداً من التسويات والصفقات. وهو كان أدرك قبل ذلك اللقاء أهمية حضور القوات إلى قصر قريطم للمشاركة في رفض عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتزام الخط السيادي الذي كانت تلك العملية نتيجة له.

 

في انتخابات 2009 لم تعط القوات التي التزمت أيضا بالتحالف ضمن قوى 14 آذار حقها النيابي ومع ذلك لم تذهب إلى البحث عن مصالحها في مكان آخر. وحتى في الحكومات التي تشكلت بقيت تبحث عن الحضور لا عن حجم التمثيل وبقيت قضية 14 آذار قضيتها الأساس.

 

خيار التوازن

 

عندما اختار سمير جعجع أن يتبنى ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية لم يكن أيضا يبحث إلا عن الثوابت التي تعيد التوازن إلى الحكم بعد عامين ونصف من الفراغ في قصر بعبدا. تفاهم معراب الذي كان في صلب هذا الترشيح كان بمثابة الطريق نحو استعادة الدولة والجمهورية. وكان قانون الإنتخابات الجديد هو بداية الطريق لتصحيح التمثيل النيابي. وعندما دخل الرئيس سعد الحريري على خط السير بخيار العماد عون كان من المفترض أن يكون هذا الخيار مدماكاً إضافياً في عملية تثبيت التوازن السياسي بين السلطات وفي مجلس الوزراء وفي الإنتخابات النيابية التي كانت منتظرة في أيار 2018. ولكن بدل ذلك عاشت القوات مواجهة جديدة مع محاولة عزلها وتحديد حجمها والحقائب التي يمكن أن تحصل عليها بينما كان الرئيس سعد الحريري الذي سمته ودعمته في حكومتي 2016 و2018 يضعها في النهاية أمام الخيارات الصعبة.

 

حكومة المواجهة

 

إن التحالفات التي حصلت في تلك الإنتخابات هي التي حددت الأكثرية العددية إلى جانب تحالف “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” وحركة “أمل” وباقي تفاصيل هذا الخط. وهذه الأكثرية هي التي كانت وراء تسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة الدكتور حسان دياب. عندما لم توافق القوات على تسمية الرئيس سعد الحريري لم تكن في وارد المواجهة معه بل كانت تبحث عن الحكومة وطبيعتها واستقلاليتها قبل الحسم في من سيكون رئيسها. هذا الأمر لم يكن ليمنع الحريري من قبول التسمية والذهاب إلى الحكومة التي طالبت بها ثورة 17 تشرين. وهذا الأمر لو كان ملتزماً به بشكل حاسم لما كان تراجع عن المواجهة.

 

لماذا مثلاً بقي “حزب الله” ومن معه متمسكين بتسمية الرئيس سعد الحريري ولماذا بقي هو متمسكاً بالبحث معهم في مسألة التسمية والتأليف وحتى في قرار الإعتذار؟ ولماذا لم يكن حاسماً في الإلتزام بأن تكون الحكومة مستقلة ومن اختصاصيين يوحون بالثقة ويمكنهم أن يشكلوا فريق عمل قادراً على إخراج لبنان من الأزمة؟ ولماذا لم يكن واثقاً من أن القوات ستعطي الثقة لحكومة من هذا النوع بعد تشكيلها؟ ولماذا لم يذهب بعد خياره الخروج من التسمية إلى تسمية من يمكن أن يكون البديل المناسب لهذا الخيار؟ ولماذا لم يتم نفي المعلومات التي تحدثت عن تفاهم اللحظات الأخيرة على عدم معارضة خيار دياب؟ وهل كان من الأفضل له ألّا يسمي نواف سلام؟ ووفق أي حسابات؟ وهل تسمية دياب اليوم تشبه تسمية الرئيس رشيد الصلح بعد انتفاضة أيار 1992 كمرشح تحد لخيارات الشارع؟ وهل هو مشابه لخيار فرض التمديد للرئيس أميل لحود بعد صدور القرار 1559 الأمر الذي دفع ثمنه الرئيس رفيق الحريري عندما أجبر على العزوف عن قبول تسميته لتأليف الحكومة وبالتالي الإتيان بحكومة عمر كرامي التي كانت الغطاء لعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟ ثمة من يعتبر أن خيار دياب في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011 كان خيار الميقاتي ولكن هل الرئيس ميقاتي هو الذي سمى كل الوزراء؟ وهل دياب هو الذي سيسمي اليوم الوزراء أم أنه سيمشي بالأسماء التي تعطى له في حال تابع السير بعملية التشكيل ولم يعتذر؟

 

في كل تلك المراحل الأساسية من التحولات اللبنانية كانت القوات منسجمة مع خياراتها على قاعدة أنها ملك تلك الخيارات وليست مجرد رقم في جيبة أي كان. وهي تدرك تماما أن ما تفعله ليس إلا مجرد خطوات ضمن استراتيجية أوسع لا تسعى إلا إلى أن تكون هناك دولة فعلية وحكومة فعلية تلبي طموحات ثورة 17 تشرين.