ينتقد كُثر من المحلّلين والسياسيين حزب «القوات اللبنانية» وقيادته على طرحه «سياسة المواجهة» كعنوان للمرحلة المقبلة، موجّهين الاتهامات له بدفع البلاد الى اجواء عنفية ومُشوّهين مقصده الحقيقي من طرحه السياسي هذا الهادف اصلاً لمواجهة الازمات المستمرّة بفعل تمسّك صانعيها بالحكم وحاضنيها بالمواقع الرسمية وضامنيها بالسلطة. يتّهمون «القوات اللبنانية» بتعريضها السلم الاهلي للخضّات من خلال طرحها سياسة المواجهة وبنقلها البلاد الى مراحل لا تُحمد عقباها، من الصعب الرجوع منها مع ما تحمل من مآسٍ وخسائر، وقد سها عن بال اصحاب النظريات الغوبلزية تلك، انّ لبنان منذ نشأته يمرّ بمراحل من عدم الاستقرار والازمات المتعدّدة، وانّ مع ظهور ميشال عون السياسي في ثمانينات القرن الماضي تكثّفت الخضّات والازمات بفعل سياسات التصادم التي اعتمدها لنيل اهدافه، وبواقع تمسّكه الدائم بمسار التصادم الافتراضي الذي دفع الآخرين للانسحاب امامه حرصاً منهم على المجتمع والبلاد، فعرّض بأدائه هذا البلاد والعباد للدمار وللحروب وللهجرة وللكفر بالوطن. اعتمد سياسات تصادمية واصطدامية تشبه الى حد كبير ممارسة قيادة السيارات المتهوّرة وجهاً لوجه بتحدّ جنوني حين يحاول السائق اجبار السائق الآخر على الخروج عن المسار المواجه في اللحظة الاخيرة، والا فالموت. وكما مخاطرة قيادة السيارات بهذه الطريقة تعدّ انتحاراً، فقيادة السياسات التصادمية تشكّل نحراً للوطن، وليست كما يصفها البعض من الموتورين بأنها تمثّل قوة شخصية لدى الزعيم وقدرة على الثبات، فالقائد الحقيقي هو الذي يُجنّب شعبه الكوارث وليس الذي يرميه في جهنّم المغامرات الفاشلة.
كُثر من الزعماء والسياسيين يتفاخرون بقوة مواقفهم التي يُخاطرون بسببها بحياة شعوبهم ومصالح بلادهم، وخطيئتهم الكبرى تتمثّل بانهم يعلمون ان ضريبة سياساتهم ستُدفع ليس من جيوبهم بل من حياة المواطنين، وهذا الواقع المرير لن يتوقّف طالما ان ممتهني سياسات التصادم في لبنان لم تتم محاكمتهم لا شعبياً ولا قانونياً بالرغم من الدمار الذي سبّبوه.
قد يكون لسياسات المواجهة مع الازمات دور فاعل بإنهاء سياسات التصادم واضرارها، التي ادّت في السابق الى تسليم لبنان لاعدائه، لان «سياسة المواجهة» التي تطرحها «القوات اللبنانية» تسمح بسحب لبنان من براثن المضحّين به، وتضع حدّاً لسياسات التصادم والاصطدامات المصطنعة التي فتحت المعارك العبثية والخاسرة سلفاً فقلبت المعادلات وقدّمت لبنان جائزة ترضية للمحتل وللغازي. فسياسة المواجهة مع هذه المنهجية المدمّرة تستطيع استرداد لبنان وتأمين التوازن له مع المعتدين على اراضيه وارزاقه وامواله وقطاعاته وسيادته. «سياسة التصادم» ألغت الاصطفاف السيادي وسلّمت البلاد للاصطفاف الممانع وللدويلة، امّا «سياسة المواجهة» فتعطي الامل في التوحد من اجل الدفاع عن خصائص لبنان وتقاليده ومميزاته والحريات فيه ومن اجل عودة الازدهار الفكري اليه وتغليب جو الاعمار والاستثمار على جو الموت والدمار والتخلّف والتهوّر.
سياسة اصطناع التصادم ليست حكراً على منهجية ميشال عون وقد برع فيها، بل هي ميزة اصحاب المشاريع القمعية التي لا ترأف بشعور الناس وحياتهم وكراماتهم، فالمشاريع الايديولوجية تعتمد الاصطدام لنيل اهدافها، وتراهن على نزول الخصم عن مسار التصادم نظراً لحرصه على البلاد والعباد، فتفرض عليه شروطها. انها سياسات لطالما استخدمها «حزب الله» بترك شؤون الدولة واقتصادها ومصالح الشركات الخاصة تتعرّض للانهيارات بهدف الضغط على الاطراف جميعها لجلبها الى منصته وفرض شروطه على التسويات، وليتها تفاهمات وطنية حقيقية تعيد البلاد الى المسار الانقاذي بل بحقيقتها هي الالتزام بالمسار الانهياري الذي نتج عن صنّاع سياسات التصادم والاصطدام.
السبيل الوحيد لافشال سياسات التصادم هو النجاح بتشكيل اصطفاف «سياسة المواجهة» ضد «سياسة التصادم»، والا فستتالى التسويات وسيتراكض الكثيرون لحفظ الدور وللتنازل عن الكرامة، تماماً كما اختار ميشال عون وتياره الدور باتفاقية عقدها في كنيسة مار مخايل، فنزل منذ حينه عن المسار التصادمي امام «حزب الله»، وخضع لشروط السائق المواجه له. امّا «القوات اللبنانية» فذهبت منذ البداية الى سياسات المواجهة ضد اصطفاف الدويلة، فعمد «حزب الله» الى عزلها بتركها وحيدةً على خط المواجهة حين استطاع ترتيب امور كل الذين سقطوا عن خط التصادم بوجهه من اطراف متباينة ومتعددة، لتشكيل خط تصادم بوجهها.
امّا الآن فأصبحت «القوات اللبنانية» هي الفريق الاكبر في الاصطفاف المواجه لاصطفاف الممانعة، واعادت المعركة الى الساحة الحقيقية، واسقطت كل المسارات المصطنعة التي اُثيرت بهدف تضليل الناس وازاحة الانظار عن المعركة الحقيقية، وكما دائماً، يتبرّع اطراف لتقديم انفسهم خدماً، عن وعي وادراك وسابق تصوّر وتصميم او عن عدم خبرة ومعرفة وافتقار للرؤية، لصالح محور واصطفاف التصادم والاصطدام. يطرح البعض من القادمين اخيراً الى العمل السياسي الابتعاد عن الاصطفافات من منطلق تجنيب البلاد المواجهات والاصطدامات، ولكنهم لا يعون خطورة طروحاتهم التي تحيّدهم عن مشروع انقاذ لبنان الذي كلّفهم به المواطن اللبناني عندما اختارهم كممثلين له في الندوة النيابية، فيتصوّر هؤلاء ان تجنّب المواجهات يؤدي الى منع التصادم، ولكنهم لا يدرون حقيقة تاريخية تقول إن عدم المواجهة للدفاع عن الهوية والوجود يؤدي الى الاستسلام.
كم من خطواتٍ يأخذها المسؤولون وتودي بالبلاد الى المهالك والمصائب والدمار، فقرارات الشعوب وخياراتها الخاطئة بإيصال مسؤولين ليسوا على قدر المسؤولية يكلّفها الكثير الكثير، وتناغم المسؤولين في عدم الجدّية مع الساحات الغوغائية والفوضوية، يتيح المجال لطروحاتٍ ذات مساراتٍ قصيرة واضرارٍ كبيرة، وافكارٍ تضليلية. على المسؤولين التصرّف بوعي والتجرّد من الادوار والتقدّم بطروحات على مستوى الازمات، فالاصطفافات السياسية تعني الخروج من المعادلات التضليلية، طبعاً وفقط، عندما يكون الاصطفاف دوره مواجهة التصادم.
(*) نائب في تكتل «الجمهورية القوية»