يستغرب معارضون لـ”»القوات اللبنانية”» كيف أنّها استطاعت بعد التجارب القاسية التي تعرّضت لها خلال عهد الوصاية أن تعود لاعباً أساسياً وقوياً لا يمكن تجاوزه في اللعبة السياسية الداخلية. رغم قرار حلّها واعتقال رئيسها سمير جعجع وفتح الملفات والإعتقالات وإجبار الكثيرين على السفر ومنعهم من العمل السياسي، بقيت “القوات”» منظّمة وحيّة وحاضرة. وبعد سقوط السجن الكبير عادت إلى استكمال مسيرتها لتصبح أكبر قوّة نيابية وسياسية من خلال انتشارها على مستوى كل لبنان ومن خلال تحالفات مع قوى سياسية أخرى باتت تلتقي معها.
يستغرب المعارضون لـ»القوات» كيف أنّها تمكّنت من النهوض بعدما اعتقدوا لوهلة أنّهم تمكّنوا من قتلها وإنهائها. ولذلك يركّزون على محاربتها ومحاصرتها ولكنّهم يعجزون عن تكرار تجربة مرحلة الحلّ والحصار والإعتقال التي استمرت من العام 1991 حتى العام 2005. ويربط هؤلاء سرّ صعود «القوات» بالدعم الذي تتلقّاه من جهات كثيرة من الولايات المتحدة الأميركية إلى المملكة العربية السعودية التي يتّهمونها بأنها تدعم «القوات» مادياً، للقول إنّ هذا الدعم هو الذي يجعل «القوات» حاضرة بقوة على الأرض وفي السياسة، وإنّ علاقة «القوات» مع المملكة قائمة على هذا الدعم، وإنّ المملكة تستطيع أن تأمر «القوات»، أو أن تمون عليها في تبنّي الموقف الذي تريده.
تجربة الحرب والسلم
ولكن قراءة موضوعية لسلوك «القوات» السياسي والعسكري وتجربتها في الحرب وفي الإعتقال وفي السلم الموعود والأمن المفقود، تثبت أنّها تتمتع باستقلالية في القرار بعيداً عن أي تأثير وعن أي تمويل. أكبر دليل إلى ذلك هو أنّ «القوات اللبنانية» في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض وعملية 13 تشرين 1990 والإنقلاب على الطائف، لم تقبل أن تمشي بالتسويات التي كانت مؤشّراتها واضحة، ووصلت بالنتيجة إلى تقاسم الدولة حصصاً ومناصب أدّت إلى هذا الإنهيار الحاصل اليوم. عارضت «القوات اللبنانية» على رغم كل ما قيل وقتها عن أنّ التسوية هي نتيجة توافق دولي كبير على الدور السوري في لبنان، وأنّ ما يحصل لا تعترض عليه الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية. ومع ذلك مشت «القوات» مع قناعاتها ولم تتنكر لنضالاتها ولشهدائها، ولم تقبل أن تشارك في عمليات النصب على السيادة وعلى الدولة. وعندما سلكت هذا الخيار اعتبر كثيرون أنّها تنتحر وأنّها تقف في وجه العاصفة، ومع ذلك لم تتراجع، ولم تقبل بالمناصب وبالمشاركة في عملية هدم الدولة وتسليمها إلى النظام السوري.
عندما اتخذت «القوات» ذلك الخيار لم تكن تعتمد على تمويل غير ذاتي. لم تكن لديها مساعدات وتقديمات لا من واشنطن ولا من الرياض ولا من غيرهما. معظم الذين كانوا يعتبرون أنّ «القوات» لم تساير ولم توافق وأنّها مسؤولة عن قرارها وعليها أن تتحمّل النتائج، ابتعدوا عنها حرصاً على أنفسهم من الملاحقة ومن تهمة الوقوف إلى جانب «القوات»، وتماشياً مع السلطة الجديدة بانتظار الآتي من التطورات. ولذلك كانت «القوات» فعلاً لوحدها في تلك المرحلة بلا مال وبلا ضمانات وبلا تعهدات. ولكن على رغم ذلك استمرت «القوات».
سرّ استمرار «القوات»
سرّ استمرار «القوات» وصمودها خلال عهد الوصاية كان يقوم على الخيط الذي بقي يربط القواعد القواتية بمن بقي يمثل وجدان «القوات» وقضيتها ونضالها، رئيسها سمير جعجع وهو في السجن. في تلك المرحلة كانت «القوات» تبحث عمّن يساعد حتى في تغطية نفقات المحاكمات والإستمرار. ولم تكن تلك المساعدات تأتي إلا من مقرّبين من «القوات» لم يتخلّوا عنها في نضالها، واعتبروا أنها تمرّ في شدّة لا بد أن تزول. وسرّ بقاء «القوات» كان في تركيبتها العضوية والنضالية حيث كان «القواتيون» يلتقون بعفوية ويعرفون ما يفعلون.
ولذلك برزت قوة حضورهم في ظل تلك المرحلة في أكثر من مناسبة: من الإنتخابات البلدية في العام 1998، إلى «لقاء قرنة شهوان» ومواكبة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في لقاء المصالحة في الجبل مع رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط، وفي لقاءات المعارضة المتجددة للوصاية السورية في البريستول. كل ذلك حصل بينما لم تكن «القوات» تتمتّع بأي دعم خارج إطار القوة الذاتية والإرادة التي لم يستطع عهد الوصاية كسرها وعادت والتقت مع إرادات أخرى سكتت منذ العام 1994، وأدركت بعد أعوام أن ما تعرّضت له «القوات» لم يكن إلا مقدمة لما يمكن أن يتعرّض له أي طرف آخر.
«القوات» والمملكة
التقاء «القوات» مع المملكة العربية السعودية لم يكن عاملاً مستجداً في السياسة. فـ»القوات» لم تكن غريبة عن المملكة ولا المملكة غريبة عن «القوات». منذ بداية الحرب كانت العلاقات جيّدة ومستمرّة. وتوثّقت أكثر في مرحلة اتفاق الطائف الذي لعبت المملكة دوراً أساسياً في الوصول إليه تمهيداً لنقل لبنان من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلم. وقد تجدّدت هذه العلاقة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان. اللقاء الأساسي في الموقف كان نتيجة نظرة مشتركة متقاربة إلى حدّ كبير تجاه الوضع في لبنان خصوصاً مع تأزّم العلاقة بين المملكة العربية السعودية وبين إيران و»حزب الله» والنظام السوري، ومع التركيز على كيفية استعادة قرار الدولة ومنع الحزب من السيطرة عليها من خلال أدوات سياسية يتعاون معها.
كان بإمكان «القوات» مثلاً أن تهادن أو أن تساوم على حرية الدكتور سمير جعجع الذي أمضى 11 عاماً وثلاثة أشهر في السجن، ولكنّها لم تفعل. قبل خروجه كانت عودتها طبيعية إلى السياسة العلنية مع انتخابات العام 2005. وتكرّس هذا الحضور بعد خروجه. في انتخابات العام 2009 حصلت «القوات» على رغم قانون الإنتخابات القديم على ثمانية نواب. ولكنّها كانت تعرف أنّ هذا العدد لا يعبّر عن تمثيلها الحقيقي الذي لم يكن محترماً أيضاً في الحكومات، واعتبرت أنّ التحالفات ضمن 14 آذار قد تعوّض عن ذلك. ولذلك سعت إلى قانون الإنتخابات الجديد الذي أعطاها 15 نائباً في انتخابات العام 2018، ثم 19 نائباً في انتخابات أيار 2022.
توسّع تمثيل «القوات» النيابي ليشمل كل مناطق لبنان. وقد باتت «القوات» تمثل أكبر كتلة نواب مسيحية. وهذا الحضور القواتي لم يكن بعيداً عن العلاقة الجيدة مع المملكة العربية السعودية التي أخذت بالرسوخ والتجذر منذ عملية الإنقلاب على الرئيس سعد الحريري في العام 2011. وتوثقت أكثر مع استهداف المملكة أمنياً في لبنان وتهديد سفيرها وبعد اتهام المملكة بأنها تدعم المعارضة السورية ضد رئيس النظام بشار الأسد.
على رغم أن المملكة لم تكن معارضة لخيار سليمان فرنجية في العام 2015 بعد تفاهمه مع رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، إلا أنّ «القوات» عارضت هذا الخيار. وعلى رغم أنّ المملكة لم تكن مع خيار ميشال عون إلا أنّ «القوات» اختارت دعمه لكسر الفراغ. بعد وصول عون إلى بعبدا ترسخت علاقة «القوات» مع المملكة أكثر بعد اعتلاء الملك سلمان عرش المملكة في العام 2015 وتولّي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد منذ العام 2017. الخيارات بدت متقاربة جدا تجاه مقاومة محاولات «حزب الله» السيطرة الكاملة على القرار اللبناني من خلال تحالفه مع الرئيس ميشال عون. اذ أثبتت «القوات» أنّها رأس حربة في مواجهة هذا المشروع وأنّها يمكن أن تشكل القوة التي يمكن أن تلتقي مع قوى أخرى تعارض سيطرة «حزب الله». واستمرّ هذا التلاقي بعد انتهاء عهد عون ومع البحث عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
منذ العام 2015 أوقفت المملكة دعمها المالي للدولة اللبنانية واعتبرت أنها لا يمكنها أن تدعم نظاماً يرعى حزباً يتولّى الحرب ضدّها ويهاجمها في شكل مستمرّ. وهذا الإبتعاد قوّى العلاقة بينها وبين «القوات اللبنانية» نتيجة قراءة متقاربة جدّا للأحداث خصوصاً بعد سلسلة تطورات حصلت منذ انتفاضة 17 تشرين وبعد تفجير مرفأ بيروت وعرقلة التحقيق والتهديد بقبع المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار، مروراً بموقعة الطيونة المسلحة.
جعجع و»القوات»
بعد أربعة أعوام على استعادة حريته والإستقرار في مقرّه في معراب قال سمير جعجع في سلسلة لقاءات خاصة عن مرحلة الإعتقال وما بعدها، إنّه وجد «القوات» في قلب القضية. وجدّد رهانه على عصب «القوات» الشعبي: «أهمّ شيء أنّ شباب «القوات» كانوا في صلب القضية ولو لم يكونوا كذلك لما كانت «القوات» استطاعت أن تعبر المراحل الصعبة التي مرّت بها من دون تغيير في هويتها وأهدافها ومبادئها».
جعجع أكّد دائما أهمية النضال السياسي: «المقاومة السياسية أحلى بكتير على رغم أنّ بعض الشهداء سقطوا في مرحلة السلم. على عكس ذلك مرحلة الحرب كانت مضمّخة بالدماء. كل يوم كان هناك شهداء. مرحلة النضال السياسي بالرغم من كل صعوباتها تبقى مرحلة طبيعية لأن النضال في الأساس كان نضالاً سياسياً والنضال في التاريخ كان سياسياً بامتياز، بينما مرحلة النضال العسكري كانت استثناء وأتمنى ألا يعيش اللبنانيون هذا التجربة مرة جديدة».
عن أهداف «القوات» قال أيضاً: «لماذا نحن منسجمون مع أنفسنا في «القوات»؟ لأننا نحمل الأهداف نفسها التي كنّا نناضل من أجلها في السبعينات والثمانينات والتسعينات والتي كمّلنا في حملها بعد الألفين ولا نزال نحملها. وصرنا مرتاحين أكثر لأنّنا رأينا كيف أن أعداداً أكثر من اللبنانيين باتت تلتقي معنا في هذه القناعات وفي حمل هذه الأهداف. من بشير الجميل الذي اغتيل، إلى سمير جعجع الذي اعتقل المسار نفسه. ما يجمع «القوات» هو الروح النضالية وروح التضحية بالإضافة إلى أن «القوات» لا تعمل حسابات صغيرة وتتصرّف دائماً من حسابات سياسية كبيرة واستراتيجية بغض النظر عن كلفتها عليها على المستوى السياسي».
جعجع في ذلك الوقت راهن على أن «المستقبل لـ»القوات» لأنه بقدر ما يكون التاريخ لك، يكون المستقبل لك. وبقدر ما يكون لديك جذور في التاريخ يكون عندك أمل وتأثير بالمستقبل. عندما يكون لديك ناس في حزب مثل «القوات» يضحّون من دون حساب كيف تريد ألا يربح هذا الحزب في نهاية المطاف وهو صار ممثّلا للوجدان المسيحي والوجدان اللبناني؟».