شكّلت مواقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي صدمة داخل المجتمع السياسي وأيقظت البعض، لأنها طرحت مسائل وحذّرت من أمور تحصل تمسّ بلبنان الدولة والكيان، ونادت بالحياد الذي هو أساسي في رحلة الإنقاذ.
ولا تزال الديمان تستقطب عدداً من الشخصيات والسفراء الذين يبدون تأييدهم لموقف البطريرك، وكان البارز أمس زيارة سفير خادم الحرمين الشريفين وليد بخاري للديمان حيث أشاد بعظة البطريرك يوم الأحد، منوّهاً بالنداء الذي أطلقه، ومعتبراً أن “غبطته صوّب الأمور بكلامه وخصوصاً لجهة حياد لبنان والنأي بالنفس”، مشدداً على كلام الراعي لناحية إعادة ثقة الأسرتين العربية والدولية بلبنان، واستعداد المملكة العربية السعودية الدائم لدعم لبنان والوقوف الى جانبه.
ورفع كلام الراعي سقف التحدّي الداخلي الداعي للإنقاذ ونقل المعركة إلى المكان الذي يجب أن تكون فيه، وصوّب البوصلة حيث وقف موقفاً تاريخياً رافضاً تغيير وجه لبنان.
وفي ملاقاة لموقف الراعي، زار الديمان وفد من تكتل “الجمهورية القوية” ضم النواب شوقي الدكاش، زياد الحواط وجوزيف اسحق وأعضاء مكتب التواصل في “القوات اللبنانية” مع المرجعيات الروحية برئاسة انطوان مراد. واللافت في تصريح الدكاش هو تركيز “القوات” على مبدأ الحياد، إذ أكد أن “كلام غبطته الأحد وضع النقاط على الحروف، وقال بوضوح أن ليس هناك خروج من أزماتنا السياسية والإقتصادية والاجتماعية إلا بتبنّي حياد لبنان. ونحن كقوات لبنانية نضمّ صوتنا الى صوت البطريرك ونناشد معه رئيس الجمهورية فك الحصار عن الشرعية وعن القرار الوطني الحرّ”.
ووضعت “القوات” مواقف البطريرك في حلقة من سلسلة بطاركة عظام من مار يوحنا مارون الى البطريرك الحويك والبطريرك صفير، بطاركة بقول كلمة الحق والحقيقة.
إذاً، وبعد تركيز “القوات” خطابها في الفترة الأخيرة على العناوين المطلبية والمعيشية، أعلنت بالفم الملآن من الديمان الدخول مباشرة في معركة الحياد، وهي تعتبر أن هناك منظومة مبادئ وطنية وسيادية لا تتبدّل، لكن مع الأيام تبرز أولويات تطغى على أولويات أخرى نسبةً للّحظة التي نعيشها، فمثلاً لحظة 14 آذار 2005 كانت العناوين السياسية السيادية هي البارزة، أما لحظة 17 تشرين 2019 فإن العناوين المعيشية والمطلبية شكّلت الأساس وبالتالي فإن الأولويات لها علاقة باللحظة.
وتؤكد “القوات” أن “الأمر الذي يتعلّق بالثوابت والمبادئ لا يتبدّل، من هنا فإن مسألة حياد لبنان مهمة جداً ونثني على موقف البطريرك الراعي الذي ذكّر بقدسية هذا الموضوع”.
وتعود “القوات” بالذاكرة إلى مراحل سقوط الحياد، حيث سقط العام 1969 عندما وقّع لبنان على “إتفاقية القاهرة” التي “تخلت بموجبها الدولة اللبنانية عن جزء من سيادتها لصالح العمل الفدائي الفلسطيني، لذلك كان وزراؤنا حسب سردها يركزون دائماً على تحييد لبنان وعدم إقحامه بسياسة المحاور لأن الصراعات ترتدّ عليه، ولم نصل إلى هذه الضائقة إلا بسبب أخذ لبنان إلى المحور الإيراني”.
وتشدّد “القوات” على أن مسألة الحياد بالنسبة إليها “هي مسألة تكوينية مرتبطة بأسس الجمهورية اللبنانية، فلا جمهورية بلا حياد لأن هذا البلد قائم على 3 ركائز هي: لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، لبنان قائم على العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين ومبدأ الحياد لا شرق ولا غرب لأنه وبمراجعة كل المحطات التاريخية وفي اللحظة التي يقترن الحياد يترسخ الإستقرار”.
ومن وجهة النظر القواتية فإن “المعادلة ثابتة بين الحياد والإستقرار، لأن الدولة سقطت في كل مرة سقط فيها الحياد الذي هو جزء لا يتجزّأ من الدستور والميثاق”.
وهنا تسأل “القوات” سؤالاً جوهرياً وهو “هل الطرف الآخر يؤمن بهذه المعادلة ويريد تطبيقها؟”، لذلك تؤيد “القوات” مواقف البطريرك وتثني على مواقفه الأخيرة العالية النبرة، لأن بكركي هي من كانت وراء لبنان الكبير وشريكة بصناعة الجمهورية الاولى و”الطائف” ولحظة 14 آذار، وكذلك هي شريكة بصناعة إنتفاضة الناس في 17 تشرين، ولا يمكن إلا أن تكون مدافعة عن وجه لبنان التاريخي الذي هو جزء لا يتجزّأ من تعبها وجهدها التي وضعته فيه.
وترى “القوات” أن موقف البطريرك الراعي الصارخ يصبّ في هذا الإتجاه، لذلك لا يمكن لـ”القوات اللبنانية” أن تكون خارج نداء البطريرك الذي يحافظ على الجمهورية ووجه لبنان التاريخي والحضاري ودور لبنان الرسالة والحريات والعيش المشترك، وهذه منظومة مبادئ أساسية للحزب.
وأمام كل هذه المواقف والعناوين، زار وفد من “الجمهورية القوية” البطريرك موفداً من رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع لدعم مواقف الراعي والقول إن “القوات” تقف إلى جانبه لأن صوت بكركي اليوم هو الذي سيشكل من جهة دفعاً باتجاه تحقيق المطالب المرجوة، ويشكّل عند الناس من جهة ثانية صوت ضمانة وسط القلق على المستقبل والمصير، فالبطريرك لم يقف مكتوف الأيدي ويشاهد لبنان ينزلق إلى الهاوية والناس تموت جوعاً.
لكن وعلى رغم كل التلاقي في المواقف، والتي شكّلت بكركي ركيزتها، فإن خيار ولادة جبهة تدعم مواقف الراعي لا يزال مستبعداً، لأن هناك أساسات مطلوبة لمثل هكذا جبهة، منها توافق جميع القوى التي تؤيد مواقف الراعي على أجندة سياسية محددة وأهداف واضحة.
وتؤكد “القوات” أنها تعمل على مثل هكذا هدف، لكن الظرف مغاير لولادة “قرنة شهوان” لأن كل طرف معارض يعبّر عن وجهة نظره إنطلاقاً من رؤيته الخاصة، وهي لا ترغب في أن تكون الجبهة مسيحية صرفة بل تضمّ كل من يناصر الحياد من كل الطوائف.
وتقترح “القوات” الوصول إلى مساحة مشتركة بين المعارضين “لنستطيع التعبير كفريق موحّد، لأن في هذه الحال يكون التعبير أقوى وأفعل وكذلك صدى الموقف، لكن دينامية الحراك الموجود بين مواقف البطريرك ومواقف القوى السياسية المعارضة وحراجة اللحظة ممكن أن تقود إلى مثل هكذا جبهة”.
في المرحلة الأولى تقترح “القوات” أن تكون هذه الجبهة تحت عنوان إنقاذ لبنان ضمن الآليات الدستورية ومن ضمنها الإنتخابات النيابية، من دون طرح العنوان السياسي العريض حتى لا تشكل إستفزازاً للبعض، خصوصاً وأن بعض مكوّنات المعارضة مثل الرئيس سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط يعتبران أن هذه الجبهة التي ستجمع ثلاثية جعجع الحريري جنبلاط ستدفع “حزب الله” إلى تعبئة داخلية والرئيس نبيه بري إلى الإلتفاف مع “الحزب”، وبالتالي تعود الإصطفافات القديمة.
لكن “القوات” تعتبر أنه مهما كانت الأسباب المهم هو الإلتقاء تحت عنوان سياسي، وأن تجتمع المكونات للانتقال من مرحلة تسجيل المواقف إلى العمل الفعلي وعدم الوقوف موقف المتفرّج على إنهيار الدولة.