IMLebanon

“عبء الثقة” في الذكرى الـ 15 لإطلاق جعجع

 

حيث لا يجرؤ الآخرون…

 

يوم خرج سمير جعجع من تحت “سابع أرض”… أتتذكرون؟ كان ذلك في تموز، قبل خمسة عشر تموزاً، وبعد أشهر من ثورة أرز تمنيناها لو تطول وتطول الى حين تعود للأرز مكانته… في ذاك اليوم خرج “الحكيم” وكرجت أحداث كثيرة نسيها كثيرون، و”يلفّق” كثيرون حكايات وحكايات عن “قوات لبنانية” ولدت من رحم النضال وشباب كثيرين رووا التراب “مسكاً وعنبراً”، لكن ما حكاية تلك “القوات”؟ وما حكاية “الصدم”، أهم وحدات “القوات” القتالية، التي استحقت شعار “حيث لا يجرؤ الآخرون”؟

قائد الصدم، في مرحلة من مراحل “القوات اللبنانية”، بيار جبور أنهى للتوّ كتابه “burden of trust” (عبء الثقة) وقرأه سمير جعجع، مرة ومرتين ومرات ومحّصه قبل أن يُنشر، حرصاً منه على أن يكون “الصورة الحقيقية لقواتٍ شكلت الرقم الصعب”. فما حكاية هذا الكتاب من الألف الى اللحظة؟

 

هو قصة حقيقية، كتبت بالعربية وتُرجمت بإنكليزية محترفة. لماذا بالإنكليزية؟ يجيب بيار جبور: “لأن إحداهن، من الصحافيات المحترفات، سألتني في مؤتمر عقد عن داعش في الولايات المتحدة الأميركية: ألستم أنتم من نفذ عملية صبرا وشاتيلا؟ وأخبرتها يومها أنه قبل أن تكون “صبرا وشاتيلا” كانت دير عشاش وتل عباس والدامور والعيشية، وأن المسيحيين تعرضوا الى مذابح من الفلسطينيين في لبنان. ويومها أيقنت أن “الدعاية” الفلسطينية واليسارية أقوى من إعلامنا”.

 

هكذا انطلقت الفكرة. “القوات اللبنانية” لها إرث وتاريخ وتضحيات ومقاومة لكن، مع الأيام، قد لا يبقى إلا ما يُكتب بالوقائع والتفاصيل من أشخاص عاشوا الوقائع والتفاصيل. فالأحداث تتتالى والتاريخ قد يُزور.

 

يبدأ قائد الصدم (سابقاً) الكتابة من حادثة الإغتيال التي تعرض لها سمير جعجع في 4 نيسان من العام 2012 في معراب، من قناصة أطلقت ثلاث رصاصات وكتب: كلنا سمعنا أزيز الرصاص. ظننت انها إثنتان لا ثلاث. ظننتها بعيدة. ركضت نحو مكتبي وبدأت في إجراء الإتصالات. رنّ هاتفي وكان الحكيم على الخط… وينطلق جبور في كتابه… أحداث وتفاصيل ومحطات وانكسارات وانتصارات و”رفاق” باتوا تحت التراب، وآخرون اعتقلوا في زمن الهيمنة السورية وأحكام سوداء واتهامات وصمود…

 

إنطلقت الفكرة في العام 2015 وأطلع جبور الحكيم عليها فرحّب بها قائلاً: “بدنا نشوف بالأول كي لا نقع في أخطاء السرد وندخل في الخيال”. أحب سمير جعجع الفكرة لكنه أراد أن يُشكل الكتاب تاريخاً حقيقياً لمقاومة مسيحية. وبدأ جبور الكتابة وعاونه اللبناني- الكندي آلان صوان الذي دأب على “شدشدة” الأفكار كي تتناسب مع ما يتوقعه القرّاء في الغرب. “زبدة القصة” هي قصة بيار جبور أما التفاصيل فقصص القواتيين، كل المقاتلين القواتيين، الذين سيجدون أنفسهم فيها. في العام 2019 رُفعت مسودة الكتاب الأولى، قبل التنقيح، الى رئيس حزب “القوات اللبنانية” الذي أبقاها بين يديه نحو ستة أشهر وطلب من قواتيين قدماء وإختصاصيين قراءتها ووضع الملاحظات عليها. وبعد ستة أشهر أعطى سمير جعجع موافقته وكتب كلمة ستكون كلمة الغلاف: هذه قصة مقاتل شجاع.

 

 

 

الكتاب من 358 صفحة وهو أصبح متوافراً بطبعة ديجيتال على “الأمازون” وهو من ثلاثة أجزاء، من 73 ألف كلمة، وله موقع إلكتروني وسيُصار الى إطلاقه رسمياً في الرابع عشر من ايلول، ذكرى إستشهاد رئيس الجمهورية الشيخ بشير الجميل. سيكون هذا الكتاب عربون وفاء له ولكل قواتي ومقاوم.

 

في السادس والعشرين من تموز، مثل البارحة بالذات، خرج سمير جعجع من الإعتقال السياسي الى الحرية. تفاصيل عاشها الكاتب ويمرّ عليها في الكتاب – القصة. هو بدأ، كما الكثيرون، كتائبياً من عمشيت. سمع عن بوسطة عين الرمانة واغتيال جوزف أبو عاصي فشارك في صفوف “الكتائب” ونقل، بالوقائع الدقيقة، بدايات الحرب اللبنانية وهبوب الشباب المسيحي، ممن لم يسبق أن أمسكوا في أيديهم إلا القلم، للدفاع عن الأرض والعرض. هنا بدأت الحرب. وهنا، في هذا التاريخ انطلقت المقاومة المسيحية بعد أن تلكأت الدولة اللبنانية عن حماية ناسها. تطوّع الشباب في “الكتائب”، ثم في “القوات”، وشاركوا في التدريبات. إنها سلسلة طويلة على دروب المقاومة شرحها بيار جبور خطوة خطوة، بالتفصيل غير الممل، في صفحات “عبء الثقة”.

 

قائد الصدم بيار جبور روى كل التفاصيل عن معهد الضباط في غوسطا وصولاً الى حرب الإلغاء وما تلاها في شكلٍ، يقول، لم يسبق أن تطرق إليه أحد. لكن، ماذا عن وحدات الصدم؟ يجيب جبور: “نقلت كثيراً من تجربة هذه الوحدات القتالية. كتبت، ما لم يُكتب من قبل، عن تأسيسها. كتبت عن عدم عشق قوات الصدم الحرب للحرب ولم تكن البندقية يوماً هي الغاية. كتبت عن كيفية ترك الشباب جامعاتهم، واستشهاد منهم من استشهد، من أجل الدفاع عن الوجود”. وهل سيكتشف القارئ الغربي كما العربي لماذا حملت هذه الوحدات شعار “حيث لا يجرؤ الآخرون”؟ يجيب: “كانت هذه الوحدات بالفعل الأكثر جرأة والأكثر كفاءة وتدريباً. شاركت قوات الصدم في المعارك النوعية، ليس حباً بالمعارك بل لأنه في الحرب “يا بقتلك يا بتقتلني”، خصوصاً حين تتقاعس الدولة وتتخلى عن مسؤولياتها”.

 

كل المعارك التي دخلت فيها قوات الصدم حققت فيها الإنتصار، لكن هذا لا يعني أن قائد الصدم لم يجرِ نقداً ذاتياً وهو يسرد في كتابه تلك المحطات. ويقول: “نحتاج أيضاً الى “حيث لا يجرؤ الآخرون” في القول: “هون غلطنا”. وكان هدف وحدات الصدم الأبعد دائماً إنهاء الحرب والحفاظ على الكيان”.

 

 

ثمة أمور تُذكر لأول مرة في كتاب «عبء الثقة». أسماء الرفاق في الصدم استعيض عنها أحياناً بأسماء مستعارة. مرحلة إنشاء الصدم مع حنا عتيق، لها حيز في الكتاب. ويقول جبور: «أعطينا، للتاريخ، كل صاحب حق حقه في السرد. الكتابة الواقعية الصادقة تحتاج الى شجاعة. فلا «تابوهات». ويستطرد بتذكير: «شعار الصدم وضعه، لمن لا يعرف، الضابط طوني الأسمر».

 

حين كان سمير جعجع في السجن، لُفقت أخبار ونُسبت جرائم وحصلت اعتقالات وصدرت أحكام… لذا، وللتاريخ، كان «عبء الثقة». وكان لا بُدّ أن يعرف الغرب والشرق تفاصيل المقاومة المسيحية بأفراحها وأتراحها، بانتصاراتها وانكساراتها… وذهب الكتاب، في أحد فصوله الثلاثة، الى حرب الإلغاء وحلّ الميليشيات وعن أحد عشر عاماً من اعتقال قائد «القوات اللبنانية» زوراً. ويقول جبور: «إعتقلت بدوري مرتين وطلبوني الى وزارة الدفاع 73 مرة». ويتذكر لحظة استشهاد قائد الصدم سلفه البطل أكرم القزح ويقول: كتبت عن تلك اللحظات بثوانيها. كتبت عن إستشهاد أكرم بين يدي، وكيف تابعنا المعركة ونحن نذرف الدمع الغزير على شهيدنا. هنا سردت حياة قوات الصدم وبقاءهم أياماً وأسابيع بلا طعام ونوم وراحة. سردتُ ما لا يجرؤ أحد على فعله غير الصدم. كنا 40 مقاتلاً خاضوا أشرس الحروب لكن تبقى أشرسها حرب الإلغاء لأنها جرت في «قلب البيت»!

 

مرحلة إعتقال «القوات اللبنانية» بأسرها، عبر اعتقال قائدها، سردت في «عبء الثقة» ويقول جبور: «أوقفوني قبيل اعتقال الحكيم وكل الأسئلة التي وجهت لي كانت في اتجاه توريط القوات في قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة. كتبت عن ذاك الرواق في وزارة الدفاع الذي مكثت فيه، مع كثير من الرفاق، طوال 63 يوماً، معصوبي العيون ومكبلي الأيدي». ويستطرد: «يوم استشهد فوزي الراسي كان يجلس الى جانبي. أخذوه وسمعته يصرخ «قلبي قلبي» حتى اختنق صوته. وسمعتهم يقولون: مات. ويوم أرادوا الإزدراء أكثر بسمير جعجع أجبرونا أن نمرّ أمامه، أن نراه ضعيفاً لكننا رأيناه جبلاً. جعلونا أرقاماً. وعُذبنا على «البلانكو» والصعق بالكهرباء والضرب على العينين والقدمين». ويعود ويستطرد بيار جبور بالقول: «كل القوات عانت. وليس أنا وحدي البطل الصنديد. أنا حبة من حبوب المسبحة، لكنني انطلقت من قصتي لأسرد قصص كل القوات».

 

في السادس والعشرين من تموز من العام 2005 خرج سمير جعجع من السجن الصغير الذي وضع فيه وخرجت «القوات اللبنانية» من السجن الكبير الذي تُركت فيه. هو يومٌ تأخر كثيراً لكنه أتى. ويومها، في ذاك النهار، كان بيار جبور أول من التقاه، من الرفاق، في حفل الإستقبال في المطار ويقول: «وقفت أنظر إليه فقال لي: بيار ما بدك تسلم؟». هل كانت هذه المرة الأولى التي يلتقيه فيها منذ رآه، في أيام الإعتقال الأولى، في وزارة الدفاع؟ يجيب: «لا، سبق ولمحته من بعيد في وزارة الدفاع بعيد استشهاد رمزي عيراني. يومها استدعوني في وزارة الدفاع لسؤالي بعض الأسئلة ولمحته في الساحة وناديته: حكيم ورفعت يدي الإثنتين».

 

في آخر الكتاب، في آخر صفحة، ملاحظتان، واحدة تتضمن الرجاء بالرحمة الأبدية الى شهداء “القوات اللبنانية”، “فأنتم من حفظتم الأرض بالدماء والأرواح وضحيتم بالعمر من أجل أن يتمتع آخرون بالسلام والطمأنينة”. والملاحظة الثانية الى من ينتقدون “القوات” حتى اللحظة وتتضمن “هي المقاومة اللبنانية المسيحية التي حافظت على الوطن والأرض والبحر والجبال كي يبقى لنا مكان نسميه وطناً”.

 

“عبء الثقة” يحكي أموراً كثيرة ليس أهل الغرب والشرق وحدهم من لا يعرفها، لكن كثيرين ممن هم في الوطن إما لا يعرفونها أو يتجاهلونها. فليُقرأ من “الجلدة الى الجلدة”. وليكن بدل الكتاب كتباً للتاريخ والمستقبل.

 

اليوم، 27 تموز، 24 ساعة مرّت على ذكرى خروج سمير جعجع من “تحت الأرض”. وفي هذه المحطة شهادة “عبء الثقة”.