اعتمدنا في قياس موقف الأحزاب من الثورة معياراً واضحاً ودقيقاً يتمثّل بمدى التزام الأحزاب ببرنامج الثورة، ولا سيّما ما يتعلّق بإعادة بناء الدولة، دولة القانون والمؤسّسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والديموقراطية. دولة تقوم على أسس تداول السلطة والفصل بين السلطات وتحرير القضاء من التدخّلات السياسية.
في سلوك حزب “القوات اللبنانية” ما يؤكّد وقوفه إلى جانب الثورة والتزامه ببرنامجها، كما فيه ما يضعه على النقيض من ذلك. هذا واضح في كلّ تحرّك له أو في تصريحات قادته، منذ خروج سمير جعجع من السجن، بل منذ قرّر الإنتقال من لبنان الوطن القومي المسيحي إلى لبنان الوطن والدولة الموحّدة.
قدّم ممثّلوه في السلطة من بين أفضل نماذج الكفاءة والإستقامة والشفافية ونظافة الكفّ، ممن يلتزمون أحكام الدستور والقوانين المرعية. مع أنّ أحداً من هؤلاء في البرلمان أو في الحكومات التي شارك فيها لم تتلطّخ سمعته بشبهة أو تهمة، إلا أنّهم وضعوا أنفسهم في تصرّف السلطة القضائية، وأعربوا عن استعدادهم للخضوع للمحاسبة تحت سقف القانون.
غير أنّ المفارقة تكمن في أنه كان يعبّر عن مواقفه الإيجابية حين يشارك في السلطة بأفضل ممّا يعبر عنها وهو في صفوف المعارضة. ربّما لأنّ امتحان التمايز عن الآخرين داخل الحكومة في ما يتعلّق بالدولة والقانون أصعب من أيّ امتحان وهو خارجها. داخل الحكومة، تكون المقارنة مباشرة وعن قرب، بحيث يسهل انكشاف علامات الفساد وانتهاك القانون. أمّا خارجها، فالمواقف حمّالة أوجه.
بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري، أراد من التحالف الرباعي أن يتمايز عمّا كان قبلها، وخصوصاً عن خصومه المسيحيين، عون والكتائب و”المردة”. هذه الرغبة بالتمايز جعلت مواقفه تنحو منحى فئوياً تبدو خلاله المصلحة الحزبية ذات أولوية على مصلحة الوطن وإعادة بناء الدولة. ظهر ذلك في مختلف الدورات الإنتخابية التي شارك فيها، حين اختار التضحية بحلفاء محتملين أو بشخصيات مستقلّة من أجل الحصول على عدد أكبر من الممثّلين الحزبيين في البرلمان.
من ناحية أخرى، فيما كانت عناصر “القوات اللبنانية” منخرطة في الثورة بصدق وتفان، تحت شعارات الثورة وبرنامجها، كانت قيادة الحزب تذكّر بحروب التحرّر الوطني، مع ما في ذلك من خروج صريح على مبادئ الثورة التي انطلقت لتحرير النظام من الفساد، لا لتحرير الوطن من الغرباء. كأنّ الحنين إلى الحرب الأهلية يشدّه فلا تفوته مناسبة الإحتفال بيوم الشهيد القوّاتي، أسوة بسواه من القوى التي تتغنّى بماضيها وبتاريخها العسكري ليشدّ العصب الحزبي ضدّ الآخر، أي في غير اتّجاه السلم وبناء الدولة.
حين شاركت في ندوة عن الإرشاد الرسولي في معراب، قرأت في الإرشاد دعوته اللبنانيين بجميع فئاتهم، ولا سيّما المسيحيين منهم، إلى التزام مبادئ الديموقراطية والإعتراف بالآخر واحترام التعدّد والتنوّع، ورأيت فيه إدانة ضمنية لجميع القوى السياسية اللبنانية بيمينها ويسارها. وحين سألني سمير جعجع السؤال اللينيني، ما العمل إذن وأنت لا يعجبك العجب؟ أجبته أنّ الحلّ يبدأ بحلّ كل الأحزاب الطائفية، بما في ذلك حزب “القوات”، مع سعي من يناضلون اليوم، كلّ في حزبه ومن أجل قضيته، إلى البحث عن بناء أحزاب تمثّل الشعب اللبناني وتدافع عن سيادة الوطن والدولة.
بانتظار نشوء أحزاب وطنية، ينبغي أن يعزّز الحزب جسور تواصله وتعاونه مع القوى التي تعمل تحت راية الدستور لاستنهاض الدولة ومؤسّساتها، وهذا بدوره يعزّز موقع الثورة في إعادة بناء الوطن والدولة.