من الواضح أن رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع يعمل بنية صادقة منذ خروجه من المعتقل (نعم المعتقل) على ترسيخ صورة جديدة لدى الرأي العام المحلي والعربي والدولي، عن الحزب وعنه شخصياً. يسعى لتكريس صورة رجل الدولة، والحزب الذي يريد انتظام عمل المؤسسات، واحترام الحريات العامة، والتعددية، وتكريس سياسات لا يتناقض فيها موقع لبنان مع محيطه العربي، لما في ذلك من مصلحة مباشرة للبنان سياسياً، واقتصادياً، وأيضاً في صراعنا مع العدو الإسرائيلي.
إطلالات جعجع التلفزيونية والشعبية، كما إحتفاليات “القوات” تشير بوضوح إلى هذا السعي الجدي. كما أن ممارسات وزراء “القوات” شكلت مثالاً عملياً على هذا الخيار.
لكن في مواقف ومراحل سياسية أخرى، نجد “القوات” في مواقع تتناقض فيها مع مخاطبتها عقل المسيحيين ولهذا البيان العام الذي يرسمه حكيمها منذ 2005. ومنها حمل “القوات” للواء القانون الأرثوذكسي، ومجاراة رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل في مواقفهما وخياراتهما “الشعبوية”، بما يشبه تنافساً معهما على دغدغة غريزة الجمهور المسيحي بدل مخاطبة عقل ومصالح هذا الجمهور، التي تتوافق مع الخيارات الإستراتيجية التي يرسمها جعجع لحزب “القوات”.
وآخر هذه المواقف، رفض المسّ بموقع بعبدا أو المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية بعد استقالة رئيس الحكومة، وكذلك رفض تسمية الحريري تحت عنوان “المطالبة بحكومة إختصاصيين بما يتلاءم مع رغبة الناس في الشارع”. حسناً، ولكن:
١- بغض النظر إن كان الشارع يرفض أو يقبل تكليف الحريري، وبغض النظر إن كان خيار الحريري القبول بأن يُكلّف هو خيار جيد أو سيئ بالنسبة له، فإن حكومة الإختصاصيين هي خيار الحريري، ومن يرفضها هو الرئيس عون وفريقه، وتوقيع الأخير هو العائق الأساسي أمام تشكيل هكذا حكومة.
٢- ما قيمة نزع الميثاقية عن تكليف الحريري لتشكيل الحكومة، مع رفض المس برئاسة الجمهورية محاكاةً لغريزة المسيحيين، مع العلم أن الحريري أو غيره ممن قد يكلفون سيواجهون ذات المعضلة، وهي رفض عون التوقيع على حكومة إختصاصيين.
٣- إن كانت “القوات” فعلاً تريد حكومة إختصاصيين، عليها أولاً المطالبة بإزالة العائق الأساسي والكبير أمام تشكيلها والمتمثل بالرئيس عون، وذلك إما من خلال الضغط الشعبي على بعبدا لدفع الرئيس إلى القبول بها، أو من خلال المطالبة باستقالته، والضغط لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية يلبي طموحات ومطالب الناس.
قد تُربح الحسابات “المسيحية” القوات إلى حين، لكن ماذا يبقى لجميع اللبنانيين إن سقط الهيكل فوق رأس الجميع، بخاصة بعد أن دخلنا مرحلة الخطر وأصبحنا على حافة الإنهيار الكامل بسبب حسابات شعبوية ضيقة، وسياسة محسوبيات فاسدة ومُفسِدة انتهجتها جميع القوى السياسية (وإن كانت “القوات” الأقل في تحمل المسؤولية كونها لم تدخل في “سيستم” تبادل المصالح و”غطّيني حتى غطّيك”).
بعد 17 تشرين، القدسية للناس ولمطالب الناس فقط، وليس لأي شخصية سياسية أو موقع رئاسي من هنا، أو طائفي من هناك.