قاضي التحقيق باقٍ إلّا إذا
قمصان سود، 7 أيار، 14 تشرين… نعم، أصبح لدينا تاريخ جديد مع من ينتشون “بفائض القوة”. مع من هددوا ووعدوا ونفّذوا. فهم من قالوا قبل فترة وجيزة، قبل أقل من 24 ساعة على “غزوة 14 تشرين”: نحن جماعة أفعال لا أقوال و”رح نفرم من يقف في وجهنا”. نعم، نفذ محازبو “الثنائي الشيعي” التهديد على وقع هتاف: “لبيك يا حسين”. قرنوا القول بالفعل والحصيلة موت وخوف وقنص ودماء ودمار و”ب 7″ ورمانات وخطوط تماس. وكل ذلك لـ”قبع” قاضٍ! فهل هي جولة من جولات آتية؟ وأيّ لبنان هذا الذي يسطون فيه على كل حقيقة، في كلِ مرة، بقميص أسود وكثير من الفجور؟
كثير من التهديد سُمع في الفترة الأخيرة عن “قبع” قاضٍ بالقوة. قاض تجرأ وقرر، باسم العدالة والحقيقة، ما لم يجرؤ عليه، منذ عقود، كثيرون. تهديد على “عينك يا تاجر” من قلب قصر العدل، الى قلب مجلس الوزراء، الى قلب الشارع، الى إعلان ما في قلب سيد “حزب الله”. تهديد تهديد. والقول أصبح فعلاً.
هناك، في نفس المكان، في مبنى سينما دنيا في شارع أسعد الأسعد في الشياح، على الخط الفاصل مع عين الرمانة، كان والدي يجلس قبل 46 عاماً على شرفته حين أطلق قناص رصاصة أصابت النرجيلة التي ينفثها. واليوم، بعد خمسة عشر عاماً على وفاة والدي، أصابت رصاصات قناص نفس المكان. فهل هي الحرب قد عادت. في الماضي أطلق الرصاصة فلسطيني أما اليوم فمن أطلق الرصاصات لن يعترف واتهامه معناه “قبع” آخر لأشخاص آخرين. فهل تُطمس الغزوة بقبع القاضي ويبقى البلد ومن فيه أسرى القمصان السود؟
إنتشار
في الصباح، عند التاسعة، كان الهدوء شاملاً. والأشرفية، التي قيل انها تستعد لتواجه أي إعتداء عليها، برفعها الصلبان على مشارفها، كانت في سكون. لا شيء يشي أنها استعدت لرد أي معتدٍ إذا ما هوجمت، بخاصة ممن يصرخون في أي تحرّك “شيعة شيعة”. الأشرفية اتكلت من زمان على الدولة وهكذا كان الأمر البارحة. مقاهي ساحة ساسين مزدحمة بشاربي النيسكافيه والقهوة صباحاً. صورة بشير (الرئيس الشهيد) على ساحة ساسين تُنبئنا من جديد بعبارة ذيلتها: “ويبقى لبنان”. نتابع نحو الجعيتاوي، الرميل، النهر، كورنيش بيار الجميل. هدوء شديد في كل مكان. وحين نصل الى مفرق، قبالة نقابة صيادلة لبنان، يربط الشارع العام بمنطقة السيوفي الأشرفية، تبدأ مجموعات الشباب بالقمصان السود تظهر. فماذا يفعل هؤلاء عند مفرق الأشرفية السيوفي؟ نقترب منهم وهم يركنون مركباتهم على جانبي الطرقات ويغادرون مشياً. نسألهم من أين أتوا؟ ولماذا هم هنا لا أمام قصر العدل؟ فيجيب أحدهم: “نحن من الضاحية” فيتدخل ثان: “نحن من كل مكان وجايين نفرم كل مين بيستاهل”.
آليات الجيش تبدأ بالظهور عند مستديرة العدلية. عبور المركبات ممنوع. المتظاهرون كلهم رجال. لا نساء لا أطفال ولا كهول بين المتظاهرين. مشهدٌ يُنبئ بأمر ما يُضمر. نقترب أكثر من بوابة “العدل” فترتفع الهتافات أكثر: شيعة شيعة… أصدقاؤنا من الشيعة كثر فلماذا يخيفوننا بإطلاق اسم الطائفة: شيعة؟ وما همنا إذا كانوا شيعة أم غير شيعة. فكرة ٌ تجتاحنا على وقعِ صدى نشيد: “نحنا جنودك عالموت، طلبنا منموت، مطرح ما بدك منفوت…”. فلماذا هذا الكلام الدائم عن الموت؟ وما ذنب من يشاركون في نفس البلد ويريدون أن يحيوا؟ محامون يفرغون نفس الجمل، كما الببغاء، التي تتحدث عن إستنسابية في قرارات القاضي. وشباب يهتفون كما الببغاء بنفس الشعارات. يهتف واحد فيكرر البقية. شعارات سمعنا مثلها، نسخة طبق الأصل، من شباب الخندق الغميق يوم هاجموا ساحات الثورة لكن هذه المرة توّجت باسم طارق البيطار.
كم رنّت البارحة أذن قاضي التحقيق لكثرة ما شُتم في الساحة. هو طالما ردد: “لن أتنحى أبداً… أغادر فقط إذا طلبت دولتي مني ذلك”. فهل ستفعل “الدولة” وتطلب منه ذلك؟ هل أرعب “الثنائي الشيعي” ما تبقى من دولة وستُذعن لإرادتهما؟ إذا حصل ذلك فعلى الوطن السلام.
فجأة إنتقل كل الحدث من ساحة قصر العدل الى مستديرة الطيونة. القنص بدأ وبدأ سرد “الخبريات”. فالقنص من عين الرمانة. لا، لا، من الشياح. لا من القوات. لا من “حزب الله” وأمل… ويبقى الثابت أن ما حدث أتى بعد تهديد ووعيد من الحركة والحزب بالتضامن والتكافل. وما هو ثابت أكثر أن صراخ الأطفال وعويل النساء والبكاء وصرير الأسنان أعاد كل اللبنانيين، ممن عاشوا حربي 1975 و1990، الى لعنة الوطن. فليس سهلاً أبداً ما حدث البارحة وطيّ الصفحة وكأن شيئاً ما كان، بمجرد تنحية قاضي التحقيق، هو جرمٌ آخر في حقّ الشعب اللبناني. لكن، من أين كل ذلك الرصاص؟ سهلٌ الإتهام لكن، كما القول ترجمه الثنائي الشيعي بالفعل، هكذا يحتاج الفعل الى إثبات؟
أولاً، المنطقة حيث اندلع “شوط الحرب” هي تحت أعين “حزب الله”. والحزب الذي يعرف ما في حيفا، لكنه لم يعرف ماذا في مرفأ بيروت، بدا وكأنه لا يعرف أيضاً ماذا في الشياح. فالمباني التي حصل القنص منها هي في الشياح، على الطريق العام، في مبانٍ سكانها بغالبيتهم من “أهلنا الشيعة”. فكيف يصعد، من صعدوا من غير الشيعة إليها، ويطلقون الرصاص في محيطٍ كله مكشوف؟
ثانياً، كل التلفزة نقلت السلاح، على أنواعه، في أيدي الشباب ذوي القمصان السود. كل الناس شاهدوا عناصر يطلقون الرصاص الغزير مباشرة، لا في اتجاه الأسطح، على العالي. فعلام كان هؤلاء يُطلقون النار ما دام “القناصة” على الأسطح؟ ولماذا كل هذا السلاح في تظاهرة سلمية؟
ثالثاً، هل “هندس” “حزب الله” تفاصيل إشتباكات البارحة كي يُقحم القوات اللبنانية، بتصوير أنها هي من يطلق النيران على الجيش، كما أقحم أحمد الأسير في معركة مباشرة مع الجيش اللبناني؟
رابعاً، هل يمكن بعد كل أشكال التهديد التي مارسها “حزب الله” منذ أربعة أشهر وآخرها قول مرتضى في مجلس الوزراء: إما قبع البيطار يا رح تشوفوا بالشارع شي ما شفتوا… أن تكون القوات اللبنانية، كما ادعى البعض، هي التي “فرجتهم شي ما شافوا”؟
غريبٌ كل ما حدث البارحة. مؤلمٌ كل ما حدث البارحة. فلبنان على كفّ عفريت يتجسد بالسلاح غير الشرعي على أنواعه. هو سلاح فيه تحد لكل الآخرين، لأهل الوطن، الذين لن يرضوا أن يختصرهم الحزب بقراراته. وكل مرة بقمصان سود وتاريخ أسود جديد. والأنكى أن التابعين له وللحركة، شباب الضاحية، يهزأون في كلِ مرة من “فوفو” و”توتو” واصفين الشباب المسيحي بالمدلل غير القادر على مواجهتهم. فهل على هذا النسق يبنى لبنان الجديد؟
الجولة الأولى من تهديد “حزب الله” نُفّذت. فهل علينا أن ننتظر جولات جديدة بعد؟ قاضي التحقيق طارق بيطار لن يتنحى. هذا قراره المستمد من الإرادة الشعبية. فكيف سيقبعوه؟ وماذا ستكون عليه الخطوة التالية؟
اللبنانيون، أولاد الشياح وعين الرمانة يريدون أن يعيشوا. ثمة إمرأة “شيعية” بكت البارحة دماً على ابنتها الوحيدة التي “هجّت” من البلاد وعلى محلها الذي نخر ما فيه الرصاص. تلك المرأة تريد أن تعيش. هي ملّت من الأحزاب، من كل الأحزاب، ومن كل الثنائيات والرباعيات وتريد أن تعيش. هذا حق لها. لبنانيون كثيرون يريدون أن يعيشوا في دولة لا سلاح فيها إلا سلاح الجيش اللبناني. فهل هذا كثير؟ اللبنانيون لا يريدون لا سلاح باسم الله ولا أمل ولا القوات ولا المردة ولا القومي السوري. وهذا حقهم.
نغادر أرض المعركة. نغادر الشارع الفاصل بين الشياح وعين الرمانة. نحن في 2021. والدي كان هنا في 1975. ألم يحن الأوان لإنهاء كل هذا العبث بشعب لبناني ما عاد يريد إلا السلام؟