تتداعى الأحداث في هذه الفترة لتتحوّل بمعظمها نحو البوصلة الانتخابيّة، حيث باتت الأحزاب جميعها مجنّدة طاقاتها للعمل الإنتخابي. ولا يخفى على أحد الانقسام الموجود في البلد. ولقد بات واضحاً اليوم أنّ الصراع بين مشروعين أساسيّين: مشروع تقوده منظّمة “حزب الله” ومَن معها، ومشروع آخر لمواجهته يقوده “حزب القوّات اللبنانيّة”. فما هي سبل المواجهة المتاحة؟ وهل يستفيد طرف ثالث من هذا الصراع الذي بات معلناً للملء؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ أحداث عين الرّمانة الأخيرة قد ظهّرت حجم الاستهداف السياسي الذي تقوده منظّمة “حزب الله” بوجه “القوّات اللبنانيّة”. فلقد أدركت هذه المنظّمة أنّ “القوّات” هو الحزب الوحيد المتبقي في لبنان الذي لم يتمّ تدجينه، أو تطويعه بشكل ما: ترغيباً أو ترهيباً. لقد استطاعت هذه المنظّمة إخضاع معظم اللبنانيّين لسلطتها بالترغيب كما حدث في 6 شباط 2006، حيث وقّعت تفاهماً مع فريق لبناني جعلت حجمه على ما هو عليه اليوم ليكون الغطاء المسيحيّ لمشروعها، ولتواجه بوساطته سائر المشاريع.
وتابعت مسيرتها في السابع من أيّار 2008 بالترهيب لتخضع مَن بقي. واستمرّت مسيرة الاخضاع هذه بالاعتصام المفتوح في وسط البلد وصولاً إلى القمصان السود وغيرها من الممارسات. حتّى شارع 17 تشرين الذي نشأ بعد الانفجار الاجتماعي الكبير، تمكّنت هذه المنظّمة من إخضاعه بالترهيب، نتيجة لسلسلة الهجمات البربريّة على مواقع الثوّار لتحجيمهم، ونجحت إلى حدّ كبير في ذلك.
وحده “حزب القوّات اللبنانيّة” بقي عاصياً على الإخضاع. ورفع راية المواجهة السياسيّة. ومخطئ مَن يظنّ أنّ “القوّات” يسعى إلى مواجهة عسكريّة محدودة أو مفتوحة مع منظّمة “حزب الله”، ليس لأنّه يخشى هذا النّوع من المواجهات، بل لأنّ هذه المواجهات بالذّات هي التي تسعى إليها منظّمة “حزب الله”، وهي التي تشدّ عصب شارعها المتهالك بعد سلسلة الأزمات المعيشيّة- الإجتماعيّة- الإقتصاديّة، ولأنّ شارع المنظّمة بحاجة إلى عدوّ لتحاربه دائماً فيكون “راجح” للمقاومة. وهنا شكّل “القوّات” بتنظيمه وصلابته العقائديّة هذا الرّاجح المكشوف بالنّسبة إلى جمهور هذه المنظّمة.
نعم، ما حدث على الطيونة وفي شارع الفرير كان مخطّطاً له، ولكن ليس من “حزب القوّات اللبنانيّة”، بل من قبل منظّمة “حزب الله”. ولقد نجحت هذه المنظّمة باختلاق قضيّة قانونيّة لتواجه بوساطتها قضيّة تحقيق المرفأ الذي ترفضه منذ اللحظة الأولى لانطلاقه. وهنا سيبدأ بازار الإبتزاز للإخضاع بعدما أيقنت هذه المنظّمة أنّه لا يمكن إخضاع “القوّات” لا بالترغيب ولا بالترهيب. لقد لجأت إلى الابتزاز القضائي لا سيّما وأنّها عمِلَت على وراثة بعض القضاء المطوّع على قاعدة النّهج السوري. ولن تألوَ أيّ جهد لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
لذلك، يجد “حزب القوّات اللبنانيّة” نفسه في مواجهة جديدة – قديمة في الساحات التي يعشقها مناصروه وملتزموه. لقد وُضِعُوا اليوم بعد أكثر من ربع قرن في الميدان نفسه الذي واجه فيه إخوتهم وآباؤوهم، أي القضاء المحرَّف والمطوَّع. ولكن مخطئ مَن يظنّ أنّ عقارب الساعة قد تعود إلى الوراء فتتمكّن هذه المنظومة من تكرار سيناريو كنيسة سيدة النّجاة، ولو مخفّفاً أو حتّى معدّلاً.
لا عودة إلى الوراء ومسار التاريخ دائماً إلى الأمام. ومخطئ مَن يظنّ أنّ بإمكانه ولو للحظة تكرار مأساة الماضي القريب مع قضاء يرفض أن ينصاع اليوم لمنطق القوّة والترهيب لإبطال تحقيق المرفأ. ولقد بات من الواضح أنّ هذا هو الهدف الرئيس الذي تسعى إليه منظّمة “حزب الله”. وهذا ما قد يزيد أيّ مراقب قناعة بأنّ هذه المنظمة ستسعى حتماً إلى استحداث أيّ حدث أمني لشلّ البلد كلّه مرّة جديدة. وقد تستخدم “القوّات” والملفّ الذي تحضّره لها ذريعة لإبطال الانتخابات المقبلة؛ لا سيّما إن أقدم القوّاتيّون على ردّات فعل غير مدروسة.
فحذارِ إذًا أن يؤمّن “حزب القوّات” لهذه المنظّمة والمنظومة الذريعة القانونيّة للإنقضاض على التحقيق العدلي في ملفّ تفجير المرفأ، ومَن يمنع هذه الثنائيّة: المنظّمة والمنظومة، من استخدام هذا الملفّ في محاولة لإبطال الانتخابات النيابيّة القادمة؟ والذرائع القانونيّة وغيرها من الفبركات المرفوضة كلّها حاضرة بهدف فرض تسويات ترضية ساقطة أبريوريّاً، لأنّ هذه المنظومة أساساً هي قد سقطت بفعل ممارساتها الخارجة على القانون، عوض أن تمارس العدالة والشفافيّة وإحقاق الحقّ لقد أثبتت سقوطها من جديد.
وسط هذه المعركة القانونيّة التي يخوضها “القوّات” يبدو أنّ شارع 17 تشرين قد صار في موقع المتحيّن للفرصة التي إن أتت ستكون من بوّابة التمايز عن هذين الفريقين. وممّا لا شكّ فيه أنّ منظّمة “حزب الله” بعد فشلها باستيعاب شارعها نتيجة الأحداث الأخيرة ستحاول حتماً فرض واقع جديد على الشارع المقابل لتنفيس الاحتقان في بيئتها الخاصّة؛ وعلى ما يبدو هي التي دفعتها إلى هذا الفعل لتحصد ردّ الفعل عليه. لكنّ الرياح لم تأتِها كما اشتهت سفنها!
خلاصة القول، المواجهة اليوم ثابتة ولن تتبدّل. مشروعان كيانيّان يتواجهان حول وجهة ووجه لبنان. وإن لم تكن الانتخابات الوسيلة لفرض المشروع بلغة الديمقراطيّة، فعلى ما يبدو أنّ المسلَّحَ بين هذين المشروعين بات مستعدّاً ليدفع اللبنانيّين جميعهم نحو وسيلته الأحبّ، أي العنف والفوضى وصولاً حتّى الحرب، ولكن فاته أنّ هذه المرّة الدّولة موجودة، وما مِن طرف آخر يريد أن يواجهه بلغته، بل بالديمقراطيّة والمؤسسات فقط. فأيّ مواجهة بلغة أخرى سيجد نفسه حتماً بوجه أربعة ملايين لبناني ساهرين ومصابيحهم مشتعلة، والدّولة اللبنانيّة بكامل مؤسّساتها؛ هذا إن لم نقل بأنّ محرّكات بكركي لم تنطفئ يوماً. فحذارِ !