خلافاً للعيوب التي كشفتها الانتخابات البلدية في زحلة وبشري وكسروان، استطاع حزب القوات اللبنانية الخروج من هذا الاستحقاق في قضاء المتن الشمالي بأقل الخسائر الممكنة. عين معراب اليوم على المنطقة التي لفظت سمير جعجع عندما كانت القوات ميليشيا عسكرية وأبقت خطواته ثقيلة عندما بات التنظيم العسكري حزباً سياسياً يريد اختراق القضاء بمقعد نيابي
«حلم الأربعين عاماً» القواتي في المتن الشمالي تحقّق. ما كان عصيّاً بات أمراً واقعاً، بعدما بلغ عدد بطاقات المنتسبين الى القوات في القضاء نحو 3500 بطاقة.
لا يمكن المرور على هذا الخبر مروراً عادياً في منطقة وضع التيار الوطني الحر فيها كل وزناته واستأثر بغالبية مقاعدها النيابية، من دون أن يتعدى عدد بطاقات الحزبيين الملتزمين عتبة الـ1900! مع الأخذ في الاعتبار هنا صعوبة المقارنة بين تنظيم حزبي متين وعتيق، وتيار شعبي لا تتعدى تجربته الحزبية عاماً واحداً.
هذه «الطلعة»، وفقاً لمسؤول قواتي، بنيت على عوامل عدة، أبرزها أن حزب القوات هو الوحيد القادر على اجتذاب أبناء الطبقة العاملة الوسطى الذين لا مكان لهم في بقية الأحزاب، ولا مجال لتحقيق طموحاتهم في الوصول الى مراكز سياسية. وهؤلاء، بمعظمهم، من «الناقمين على الإقطاع السياسي في قضاء يحوز النسبة الأكبر من الإقطاع»، إضافة الى «مفهوم القضية». فعقب فشل عهد أمين الجميّل، تحوّلت بلدات كتائبية فقيرة مجاورة لتلك التي يسكنها الأثرياء، كمحيط كل من بكفيا والرابية وانطلياس والجديدة ــــ البوشرية ــــ السد، الى خزان عسكري للقوات.
من جهة أخرى، لا قدرة لأيّ حزب على تحقيق ما سبق من دون تنظيم متماسك وفاعل، فكيف إذا كانت القوات قد حوّلت تنظيمها العسكري إلى حزب سياسي ينطق بلسان المقاتلين ومناصري «القضية» على السواء. ويذهب البعض إلى ردّ 50% من قدرة القوات على «أسر» الشباب إلى نجاحها التنظيمي، فيما تعمّ الفوضى الأحزاب الأخرى. وقد بدا ذلك واضحاً في الانتخابات البلدية الأخيرة من حيث الالتزام الحزبي الاستثنائي باللوائح المدعومة من معراب. فخلافاً للتيار الوطني الحر الذي خرج بندوب من الاستحقاق، يمكن القواتيين المجاهرة بحسن التزام الحزبيين وخروجهم معافين على مستوى الكوادر. وقد آثرت القوات اللعب بذكاء خلال هذا الاستحقاق، فامتنعت عن الإيعاز رسمياً الى حزبييها بالاقتراع لهذه اللائحة أو تلك، الأمر الذي خفف من وطأة اقتراع بعض القواتيين في انطلياس وضبية عكس رغبات منسّقي الهيئات. من جهته، يؤكد القيادي القواتي إدي أبي اللمع أن الالتزام بلغ نسبة 99%، فيما الـ1% لا يتعدّى تمرّد منسّق بلدة جل الديب على خيار القوات وسيره مع اللائحة المدعومة من النائب ميشال المر. وفي هذا السياق، لم تصدر لجنة تقصّي الحقائق المكلفة بالحكم على حالات مماثلة قرارها بعد، رغم استدعائها المنسق، ويتوقع أن تصدر قرارها الشهر المقبل. وبعيداً عن هذا «الخرق»، التزم القواتيون، وفقاً لأبي اللمع (مرشح القوات عن المقعد الماروني في المتن والمنسّق السابق للقضاء) باللوائح المشتركة. فالتحالف، «أراح القضاء والمسيحيين وبات التنسيق تحصيل حاصل في مختلف القرى».
غير أن التنسيق لا ينسحب على الانتخابات النيابية، وبالتالي لا التزام جدّياً حتى الساعة، إذ يشير أبي اللمع الى أن الموضوع لم يناقش مع التيار بعد، ولكن «في الكادر العام يفترض بالتحالف النيابي أن يكون جزءاً من إعلان النيات». أما اتهام القوات بالضعف خدماتياً فـ»غير دقيق»، كما يقول أبي اللمع، إذ إن مكتبه في ضبيه «مفتوح منذ سنوات، ونستقبل الجميع». كذلك فإن التنسيق جارٍ «مع البلديات والأجهزة الأمنية ومع التيار الوطني الحر».
سياسياً، وضع القوات في أحسن أحواله، على ما يقول أحد مسؤولي معراب. الخصومة أو «الجفاء» بين القوات ومن أصابتهم شظاياها الميليشياوية انحسرت الى حدّها الأدنى، أكان ذلك في ما خصّ النائب ميشال المر الذي سبق له اتهام القوات بإفقاده سمعه في واحدة من أذنيه أم في اختطاف ابنه الوزير السابق الياس المر من المجلس الحربي في الكرنتينا وإغلاق جريدة «الجمهورية» عقب الاتفاق الثلاثي. يؤكد القواتيون أن العلاقة مع المر الأب على خير ما يرام، بدليل خوض انتخابات 2009 النيابية على لائحة واحدة، في حين أن العلاقة مع المر الابن «لا إيجابية ولا سلبية». إلا أن مصادر النائب المر تشير الى أن «لا علاقة ولا تواصل مع القوات منذ مدة طويلة».
على ضفة النائب ميشال عون، ترسو سفن القوات بسلاسة وترحيب حار من عدو الأمس وصاحب النفوذ الأكبر في المتن. وأي تحالف نيابي سينسحب إيجاباً على المرشح القواتي وفرصه في الفوز بعد عدة محاولات فاشلة. في ما يخص حزب الطاشناق، القول إن الحزب كان في الانتخابات البلدية يبحث عن لوائح العونيين المشتركة مع القوات ليصوّت ضدها، مبالغ فيه بحسب مصادر القوات. وفي هذه الواقعة، لم تتمكّن القوات من لوم حزب الله، فلم تجد إلا حليفه، الرئيس نبيه بري. فتصويت الطاشناق ضد القوات مردّه، بحسب القواتيين، إلى التنسيق بين الحزب الأرمني الاول والرئيس نبيه بري! في ما عدا ذلك، يضيف مسؤولون قواتيون، لطالما كان الأرمن قريبين من القوات، لا بل شكلوا في إحدى مراحل الحرب خزانها العسكري، وشغل مقاتلوهم مراتب عسكرية عالية، فكانوا قادة فرق. غير أنهم حددوا خياراً سياسياً مختلفاً عن خيار القوات بعد 13 تشرين الاول 1990، من دون أن يعني ذلك انقطاع العلاقات مع معراب، إذ يزور النائب هاغوب بقرادونيان جعجع باستمرار، ويحرص الأخير على إقامة احتفال في معراب في ذكرى مجازر الإبادة. إلا أن هذا لا يعني أن العلاقة جيدة بين الطرفين، بل «هادئة».
يبقى أن العلاقة الملتبسة فعلياً ليست مع أحد سوى مع الكتائب اللبنانية، والتباسها يعود الى يوم تأسيس القوات اللبنانية. ففي مفهوم الكتائب، القوات خرجت من رحمها، وبالتالي لا وجود لها بمعزل عنها. لذلك، يغيب الاستقرار بين بكفيا ومعراب، لا سيما أن القوات في السنوات الأخيرة بدأت تأكل من صحن الكتائب، وبات التنافس هو عنوان العلاقة المغلفة ببسمات صفراء. ويظهر ذلك جلياً خلال الانتخابات النيابية التي دأبت القوات والكتائب على خوضها عبر لائحة مشتركة، يشطّب فيها كل حزب مرشح الحزب الآخر. وفي حين يبقى تأثير التشطيب القواتي ثانوياً ويتمثل فقط في حلول النائب سامي الجميّل ثانياً في مجموع أصوات المقترعين لصالحه، فإن إسقاط الكتائبيين لاسم مرشح معراب عن اللائحة يساهم في خسارته المقعد.
عملياً، لم تضاعف القوات بطاقاتها من اللامكان. 3500 منتسب هم فعلياً مزيج من مناصري النائب الراحل نسيب لحود وجزء مهم من الكتائبيين والشباب المنحدرين من عائلات كتائبية. لكن عندما يأكل القوات من صحن الكتائب في معقله الرئيسي في المتن الشمالي، فذلك دليل واضح على أن جعجع يقضم الوجود الكتائبي في المناطق الأخرى بسهولة تامة.