خلال مرحلة التحضير لحراك «التيار الوطني الحر» الاعتراضي على سياسة الحكومة التهميشية للمسيحيين ومصادرتها لحقوقهم في ظلّ الشغور الرئاسي، منّ بعض الناشطين «العونيين» النفس بأنّهم لن يكونوا «وحدهم» في الشارع هذه المرّة، حتى ولو تخلى «الحلفاء» عنهم، موحين بأنّ التفاهم بين «التيار» و»القوات اللبنانية» سيفعل فعله، ليخوض الخصمان التقليديّان معركة «استعادة الحقوق» جنباً إلى جنب، ربما للمرّة الأولى في تاريخهما.
لم تتحقّق هذه «الأمنية» المبالَغ بها بطبيعة الحال، فلم تنزل «القوات» إلى الشارع، ولم يحذُ رئيسها حذو رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، فغاب عن الخطاب الانفعالي التصعيدي، ولكنّه في المقابل لم يتصدّر صفوف «المعركة المضادة» كما جرت العادة خلال السنوات القليلة الماضية، تاركاً «تيار المستقبل» يقلع شوكه بأيديه هذه المرّة.
هكذا، لم تُرصَد لرئيس حزب «القوات» أيّ مواقف لا إيجابية ولا سلبية من الحراك «العوني»، رغم إطلالاته المكثّفة والتي لم يخفّف من حجمها أبداً، فبدا الرجل كمن «نأى بنفسه» بكلّ ما للكلمة من معنى. وإذا كان نأي «الحكيم» بالنفس قد أتى أقلّ من طموحات عون وفريقه السياسي، فإنّه أتى بمثابة «صفعة» لتيار «المستقبل»، الذي لم يستطع الاعتماد عليه هذه المرّة.
برأي مصادر سياسية مطلعة، فإنّ الموقف «القواتي» المُحايِد إلى حدّ ما ليس غريباً بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل هو موقفٌ طبيعي ينسجم بالكامل مع ظروف ومتطلبات المرحلة. هي تلفت في هذا السياق إلى أنّ الاعتبار الأول الذي فرض على جعجع هذا الموقف ينطلق من الشعارات التي يرفعها عون، والتي ينبغي أن تعني كلّ المسيحيين، فجعجع لا يمكنه أن يكون ضدّ نفسه وبيئته، ويتصدّى بكلّ قوته لمن يقول أنّه يريد استعادة الحقوق المسيحية المسلوبة، ولمن يصرّ على منع تحجيم الدور المسيحي وتجاهله والقفز فوقه.
أما الاعتبار الثاني، فينطلق من التفاهم الموقّع بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، والذي اعتُبِر بمثابة «انتصار» لـ «الحكيم» قبل «الجنرال»، بوصفه سيكون «الرابح الأكبر» منه على المدى الطويل، وبالتالي فإنّ افتعال أيّ مشكلة مع عون في هذه المرحلة سيكون بمثابة خطوة ناقصة ومغامرة غير محسوبة النتائج ستعيد الأمور بينهما إلى نقطة الصفر، وستضيع عندها كلّ المكاسب التي حصدها دفعة واحدة.
وتقول المصادر في هذا السياق أنّ جعجع، الذي ثبّته التفاهم مع عون «وريثاً» له بشكلٍ أو بآخر في الساحة المسيحيّة، لا يمكنه أن يفرّط بكلّ شيء ويدخل في معركةٍ «خاسرة» سياسياً وشعبياً فقط «كرمى لعيون الحليف»، مشيرة إلى أنّ جعجع يعتقد أنّ على «تيار المستقبل» ينبغي أن يتفهّم موقفه ويحترمه ولا يعتبره «فكاً للتحالف»، تمامًا كما أنّ «حزب الله» مثلاً يتفهّم كلّ مواقف عون، المعتدلة منها والمتطرّفة على حدّ سواء، بل يتبنّاها بشكلٍ أو بآخر.
وكما حزب «القوات»، لم يكن حزب «الكتائب اللبنانية» أيضًا رأس الحربة في مواجهة معركة عون، وإن حرص على الاعتراض على «النهج» الذي اختاره و«الأسلحة» التي اعتمدها في حراكه، سواء لجهة استخدام «لغة الشارع»، أو اللجوء إلى «الخطاب التحريضي» خصوصًا في وجه رئيس الحكومة تمام سلام، وهو تقاطع في ذلك بشكلٍ أو بآخر مع «حليف» عون، رئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية، كما تلاحظ المصادر، في ما تعتبره تأكيداً على أنّ «الكتائب» لم يغالِ في اعتراضه، ولم يتطرّف في المواجهة كما توهّم البعض أنه قد يفعل.
وتشير المصادر في هذا السياق إلى أنّ الموقف الكتائبي لا يدفع إلى الاستغراب، بل هو أقلّ غرابة بأشواط من موقف «القوات»، خصوصًا أنّها ليست المرّة الأولى التي يتمايز فيها «الكتائبيون» عن حلفائهم في «تيار المستقبل»، الذي بات يشعر أنّهم باتوا أقرب إلى طروحات «التيار الوطني الحر» منهم إلى طروحاته، خصوصًا في ضوء «الروح الجديدة» التي بثها النائب الشاب سامي الجميل في الحزب بعد وصوله لرئاسته خلال الفترة الأخيرة، وهو الذي رفع سريعاً شعار «تطوير النظام»، الذي يعرف كم يستفزّ «المستقبليين»، الذين لا يزالون حتى اليوم يخوضون معركة تعرية ما سُمّي بـ «المؤتمر التأسيسي» من مضمونه، حتى لا يصبح واقعاً على حسابهم.
وتلفت المصادر إلى أنّ تصدّي وزراء «الكتائب» في جلسة مجلس الوزراء لخطاب وزير الخارجية جبران باسيل ووقوفهم في صفّ رئيس الحكومة تمام سلام لم يكن كافياً لنقض كلّ هذه المنطلقات، طالما أنّ الاعتراض بقي على «الشكل» لا على «الجوهر»، وهي تربط الأمر أيضًا بعدم قدرة «الكتائب» على الوقوف ضدّ نفسها أولاً، وهي التي ترفع شعار «لا للتطبيع مع الفراغ الرئاسي»، فضلاً عن أنّ فتح «بازار المزايدات» في الساحة المسيحية لا يسمح لها بالوقوف في الصف المقابل لمن يدّعي أنّه منقذ المسيحيين وحاميهم الأول والأخير، حتى لو كان يفعل ذلك زوراً.
وسط هذه المعمعة، لم يبق من داعمين لـ «تيار المستقبل» في معركته سوى رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، وبعض مسيحيي «14 آذار» الذين لا يتمتّعون بأيّ حجمٍ أو وزنٍ تمثيلي حقيقي، والذين بادروا لإطلاق «حملاتٍ مضادة» للدفاع عن رئيس الحكومة تارة، والتقليل من شأن الحراك العوني وشعاراته تارة أخرى. لكنّ هؤلاء، تقول المصادر، لا يمكنهم أن يكونوا «رأس حربة» في المعركة بطبيعة الحال، لأنّهم غير قادرين على التأثير حتى على دوائرهم الضيّقة، وهم باتوا مصنّفين بنظر كثيرين كـ «ملحقين» و«تابعين»، وبالتالي فإنّهم قد «ينفعون» مشروع عون أكثر من مشروع خصومه، أقلّه داخل البيئة المسيحية.
في النتيجة، الأكيد أنّ لمسيحيي «14 آذار» اعتباراتهم وحساباتهم التي جعلتهم يبتعدون «قالباً» عن «تيار المستقبل» ويبقون معه «قلباً»، ليبقى موقف «التيار الأزرق» من ذلك ضبابيًا، وهو الذي يرفض التصويب عليهم حفظاً لـ «خط الرجعة»، ولكنّه لا يخفي في مجالسه الضيّقة امتعاضه وخيبته منهم، بل يذهب لحدّ القول أنّ رئيس «تيار المردة» كان أكثر جرأة وشجاعة منهم، وأنّه وجّه له من رسائل الطمأنة وتبديد الهواجس ما لم يقوَ حلفاؤه على فعله، قافزاً بذلك فوق كلّ الاعتبارات والحسابات، بل فوق تحالفه المعروف مع عون…