IMLebanon

قوات زحلة تزرع تحريضاً… وتحصد شعبية

 

في معرض توصيفه لانشغال القوى السياسية المسيحية الدائم بالتفاصيل الصغيرة، يقول نائب كسرواني سابق إن القوى السياسية والشعبية المسيحية تبدأ التفكير بالانتخابات المقبلة قبل أن تنتهي من فرز أصوات الانتخابات السابقة. وإذا كانت هذه حال كسروان وجبيل والمتن، فإنها مضاعفة في زحلة حيث العمل في الزراعة أو الطب أو الهندسة أو التعليم أو في المؤسسات الأمنية كلها وظائف ثانية، فيما الوظيفة الأولى هي السياسة. قد يفاضل الكسرواني أو المتني أو الجبيلي بين عمله الخاص وعمله السياسي، وربما يختار الأول على الثاني، فيما إذا خُيّر الزحلاوي بين السياسة والسياحة والسياسة والتجارة والسياسة والعلاقات الاجتماعية… فسيختار السياسة أولاً وأخيراً. والسياسة هنا لا تعني اقتصاداً أو جغرافيا أو دوراً ووظيفة أو حتى أحزاباً كما هي الحال في المتن الشمالي مثلاً، وإنما «فشّة خلق ونقطة عالسطر»، في عاصمة الكثلكة التي لم يقطع سياسيّوها يوماً مع الجوار اللبناني القريب، ولا السوري خلف الحدود.غير أن شيئاً ما في زحلة يتغيّر مع تصاعد هواجس «التهديد الوجودي» و«انعدام الشعور بالأمان». وعندما يحضر هذان الشعاران، فتّش عن القوات اللبنانية. فقد أدى الغياب التام لخصوم معراب وحلفائها في السياسة (الكتائب والتغييريين) إلى تحوّل شعار «زحلة قوات» من «جو عام» يسوّقه القواتيون إلى ما يشبه الأمر الواقع، بمعزل عن أداء نائبَي القوات جورج عقيص والياس إسطفان اللذين يبرع أولهما بصفّ الكلمات على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما يكبّر الثاني حجز وعوده التي لا تُنفذ، وآخرها مشروع ترميم السوق القديم الذي استمات نهاية العام الماضي حتى تُكلّف البلدية جمعيته بتنفيذه، فكان له ما أراد قبل أن ينام المشروع وصاحبه.

 

زحلة قواتية أكثر من بشري

لذلك، فإن تلاقي المزاج الزحلاوي أخيراً مع الجو القواتي، كما تؤكد أكثر من فاعلية زحلاوية، لا يرتبط بعقيص وإسطفان ولا بالخدمات التي (لا) يقدمانها. إذ إن الخدمات معدومة أساساً عند القوات وغيرها. وحده النائب ميشال ضاهر يمتلك الإمكانات التي تمكّنه من إبقاء حنفية الخدمات مفتوحة. غير أنه لم يستطع منافسة القوات سياسياً، رغم خطابه الأقرب الى خطاب قوى 14 آذار، ببساطة لأن سقف نواب القوات أعلى طائفياً وتحريضياً، ولأن معراب نجحت في إحياء هواجس وجودية في مدينة تعيش قلقاً تاريخياً، يغذّيه تفاقم اللجوء السوري حيث بات عدد النازحين ضعف عدد السكان، فيما يحيط بها حزب الله من الشمال وثقل انتخابي سنّي وازن من الجنوب.

أدى ذلك، وفق ما يقول أحد المطّلعين، إلى جعل القواتي الزحلي أكثر تعصّباً من القواتي البشرّاني، «ففي بشري لا يشعر أحد بأن وجوده مهدد، أما القواتي الزحلاوي فقادر على إقناع من حوله بأن الخطر يدقّ على أكثر من باب. وكعادتها، تتقن القوات اللعب على وتر القلق الجماعي والعداء التاريخي لسوريا، والآخر أيّاً كان. لذلك، كلما استعر الخلاف الطائفي وزاد الانقسام العمودي والتحريض المذهبي والتخويف من الآخر، تعلو أسهم القوات، ولا يفكر الزحلي مرّتين قبل أن يناصر شعاراتها». وتساعد في ذلك «شلمسطية» مسؤولي القوات واستسهالهم إطلاق البعبع الطائفي والتعبئة والتحريض، وهو ما لا يجيده العونيون وأنصار الكتلة الشعبية والنائب ضاهر حتى ولو حاولوا ذلك بين استحقاق وآخر.

 

القوات تملأ فراغ سكاف وفتوش

الصعود القواتي لم يتأتَّ فقط من الوضع السياسي العام، وخصوصاً بعد تاريخ 7 تشرين الأول 2023. في العمق السياسي، يكفي أن يُسأل أيُّ زحلي عن انتمائه ليقول «زحلاوي وبس»، لأنه كانت ثمة مرجعية في المدينة اسمها جوزف سكاف، ثم إلياس سكاف تطمئن الزحلاويين وتقيهم الارتماء في أحضان الأحزاب. على مدى عقود، كان الانتماء لآل سكاف هو انتماء للدولة، يقول أحد المخضرمين في المدينة. وهو ما يفسر الفراغ الهائل الذي خلّفه موت سكاف. ومنذ ذلك اليوم، «بدأوا البحث عن هوية أخرى تعوّض اليُتم الذي أصاب المنطقة وضرب التوازن في قلب زحلة. وقد عرف جعجع كيف يستفيد من الفراغ الذي خلفه موت سكاف وبيار فتوش والشعور الزحلي بفقدان الهوية والظهر».

وفي ظل تفاهم التيار الوطني الحر مع حزب الله وعلاقة التيار الجدلية الغريبة مع الخدمات والسلطة، لم تكن ثمة إمكانية عونية للمنافسة. أما الكتائب فحضورهم ينحسر في المدينة والقضاء منذ أكثر من 10 سنوات ولم يعد عدد ناخبي الحزب يتخطى الـ 1500 بسبب النزف المتواصل جراء الخلافات والانقسامات الداخلية، فضلاً عن عدم جديّة العمل الحزبي مقارنة بالقوات وغياب التمويل والقدرة على منح الناخب شعوراً بالطمأنينة.

أما التغييريون الذين نجحوا إلى حدّ ما في استمالة الناخب الصامت غير الراغب في السير وراء القوات، أو المتعَب من شعارات معراب الدونكيشوتية، ومعهم المرشحون الذين نجحوا في تقديم نموذج مختلف وواعد، على رأسهم الطبيب عيد عازار، فقد فشلوا في إكمال المشوار بعد إقفال صناديق الاقتراع. وعرفت الأحزاب، وعلى رأسها القوات، كيف تحفر لهم الحفرة تلو الأخرى وتقضي عليهم ببطء، لتعيد تعويم نفسها.

عرف جعجع كيف يستفيد من الفراغ الذي خلّفه غياب الزعامات التقليدية والشعور الزحلي بفقدان الهويّة والظهر

 

في المقابل، لم يخسر التيار الوطني الحر من ناخبيه طالما أن لا انقسامات داخلية حادة بين العونيين ولا منافسة مارونية داخلية على مقعد النائب سليم عون، إلا أنه لم يتمكن من اجتذاب أصوات إضافية لعدم نجاحه في تقديم ما يتفوّق فيه على خطاب القوات. ويقول أحد النواب إن الزحليّين من غير العونيين مرتاحون لخطاب الوزير جبران باسيل المستجدّ المتمايز عن حزب الله، وخصوصاً في ما يخصّ وحدة الساحات، «لكن علاقتهم به مهزوزة لعدم ثقتهم بتمسكه بهذا الخطاب إذا ما تبدّل الوضع الميداني، في حين أنهم على ثقة بأن جعجع لن يغيّر موقفه مهما حدث».

لكن، هل ينعكس هذا التوجه في مدينة زحلة في صناديق الاقتراع؟ يجيب أحد مخضرمي المدينة: «زحلة تعيش كل يوم بيومه وتتأثر بالاستقرار السياسي في البلد. يمكن لجعجع ملء فراغ غياب المرجعيات التي كانت تطمئن الزحالنة وتضمن لهم حماية أمنية ومجتمعية. لكن عودة انتظام الدولة عبر انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة، وما يعنيه ذلك من عودة الاستقرار والتوازن، كلها أمور ستؤثر حكماً على خريطة المدينة ومزاج أهلها وتعيد خلط الأوراق بحيث لن تعود المدينة أرضاً خصبة للقوات، تزرع فيها تحريضاً وتحصد تأييداً شعبياً».