ضائعة هي سياسة لبنان الخارجية، أو بالأحرى غير موجودة. هناك عناوين عريضة، يُقال إنّها «ثوابت» مُعمّمة على البعثات اللبنانية في الخارج – وأبرزها العداء مع «إسرائيل» – يُفترض الالتزام بها. الواقع في مكان آخر، في أنّ الموقف الخارجي تتحكّم به تموضعات القوى السياسية الداخلية والغايات الشخصية لدبلوماسيين يبحثون عن «شمسية» في زمن التغيرات
«الماتش» الدبلوماسي اللبناني في جنيف، الذي انطلق في 22 أيلول، لم يكن أكثر من عيّنة صغيرة عن سياسةٍ خارجيةٍ لبنانية ضائعة. احتاج الأمر إلى ثلاث جلسات لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في جنيف، و«همروجة» كبيرة، قبل أن يُحسم قرار إلقاء كلمة دفاعية بوجه هجوم مندوبة العدو الإسرائيلي على حزب الله في جلستَي 22 و25 أيلول. شكّل ذلك وجهاً علنياً للأزمة العميقة التي تُعاني منها السياسة الخارجية للبلد، والمتوارثة منذ سنوات عديدة. في جنيف، السكوت كان خيار البعثة اللبنانية، مُعَلَّلاً بضيق الوقت ما لم يسمح بالتشاور مع الإدارة المركزية. مع العلم أنّ التوصيات من وزارة الخارجية والمغتربين إلى كلّ البعثات واضحة: «الالتزام بالنأي بالنفس في كلّ المواضيع العربية والإقليمية والدولية، أما حين يوصف أي فريق لبناني بالإرهاب أو بأنّه ذراع لدولة أخرى، وحين يكون للأمر علاقة بالعدّو، الردّ واجب». الاثنين 28 أيلول، ألقى لبنان كلمة صدّ فيها الادعاءات الإسرائيلية، مُضيئاً على انتهاكات قوّات العدّو للسيادة. الردّ وإن أتى في سياق تصويب الخطأ الذي شاب البعثة نفسها، إلا أنّه قدّم مثالاً جديداً على المعضلة الرئيسية: الخلل على مستوى السياسة الخارجية.
حَدَث الأيام الماضية، هَيمن على الساحتين المحلية والدبلوماسية، ولكنّه لم يكن يتيماً. من منبر جامعة الدول العربية، أطلّت الخارجية اللبنانية أيضاً بصوتٍ خافت حول موضوع استراتيجي: القضية الفلسطينية. في 9 أيلول، عُقد على مستوى وزراء الخارجية العرب اجتماعٌ، تترأسه السلطة الفلسطينية، «مرّ» خلاله المُجتمعون على مسألة تطبيع الإمارات والبحرين مع «إسرائيل». خلال النقاشات، كان لافتاً وقوف كلّ من تونس والعراق والجزائر… ولبنان على الحياد، وعدم إبداء الرأي في طلب فلسطين ذكر التمسّك بالمبادرة العربية «وإدانة الخروج عنها». قبل جلسة الدورة العادية، طلبت رام الله عقد جلسة خاصة لمناقشة التطبيع، «فامتنع لبنان أيضاً عن إرسال جوابه»، بحسب أحد الدبلوماسيين، قبل أن تُجهض المحاولة بجهود الإمارات – مصر – الأردن ويُصار إلى انتظار الدورة العادية التي تغيّب عنها الوزير اللبناني شربل وهبة بداعي إصابته بوباء «كورونا» (الجلسة عُقدت عبر تقنية الفيديو)، ومثّله فيها الأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين، السفير هاني شميطلي. توضح مصادر الوزارة أنّ لبنان في جلسة الجامعة العربية حاول «طرح عدد من الأفكار، كطرح صياغة أنّ مبادرة السلام العربية مُلزمة بجميع مندرجاتها». لماذا وقف على الحياد؟ «إلغاء كلمات الدول عطّل على لبنان فرصة تظهير موقفه، ولا يُمكن إغفال أنّ الفلسطينيين أنفسهم خفّضوا سقف المعركة بقبولهم عدم إضافة موضوع التطبيع كبند خاص». عظيمٌ لو كان مُحرّك الموقف اللبناني هو هذا السبب حصراً. ولكن الأساس يكمن في أنّ أحد «طرفَي النزاع» هو الإمارات التي تندرج ضمن خانة الدول التي لا يجرؤ لبنان على معاكستها، والحُجّة نفسها «آلاف اللبنانيين يعملون فيها، ولا يُمكن تعكير العلاقات اللبنانية – الخليجية». يُعلّق أحد السفراء في بعثة غربية: «لو كانت الدولة المعنية هامشية، لكان لبنان اتخذ الموقف المناسب بكلّ راحة ضمير». امتحان جديد سيوضع لبنان أمامه في الجامعة العربية. فبعد أن رفضت فلسطين ترؤس جلسات الجامعة بسبب الخلاف مع أعضائها، آلت الرئاسة (يتم الاختيار حسب أحرف الأبجدية) إلى قطر التي رفضتها أيضاً، وكذلك فعلت الكويت. القرعة حالياً رست على لبنان، فهل سيتجرأ على وضع نفسه في هذا الموقع في هذا الظرف الحساس؟
واضحٌ أنّ الدبلوماسية اللبنانية (كسياسة وليس بمعنى الوزارة حصراً) فاقدة للبوصلة. لم تسلم من الفوضى المحلية، والتباين في رُؤى الدول الغربية وبعض العربية بشأن لبنان، فأضحت كَمن تُرك وحيداً وسط أرضٍ قاحلة. بغياب ضابط الإيقاع، وتحديداً منذ انسحاب الجيش السوري في الـ2005، تفشّت التناقضات وبات يُمكن الحديث عن «سياسات خارجية» لبنانية. ففي زمن الوصاية، كان أركان الدولة «مرتاحين» من بعض الواجبات. ما يحصل راهناً أنّ غياب الموقف أصاب الثوابت. «فعلياً لا يجري صياغة سياسة خارجية»، يقول أحد السفراء في الإدارة المركزية. أما زميله في رئاسة بعثة عربية، فيبدأ من «مبنى الوزارة المهبّط (نتيجة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب)، إصابات كورونا عديدة بينهم… كلّ القوى المحلية تُعيد تموضعها. فأصبح العمل محصوراً بالأمور الضرورية بانتظار تشكيل حكومة».
الخطوط العريضة «لا تزال هي نفسها»، يقول مصدر في «الخارجية»، مُشدّداً على أنّه «ليس المطلوب من رؤساء البعثات أكثر من الالتزام بها، من دون المبالغة أيضاً بالردود، لأنّ ذلك لا يخدم القضية وبسبب وضع لبنان الداخلي والخارجي الحسّاس». ولكن، السياسة الخارجية «بحاجة إلى تحديث». فالتطورات الحاصلة «شرسة وقوية تستدعي موقفاً طارئاً غير معتاد على مستوى مجلس الوزراء، لأنّ الموقف العام لا يعود كافياً». يتكلّم المصدر بشكل خاصّ عن التطبيع الخليجي، «لبنان مُلتزم بمبادرة السلام، ولكن حصل أنّ دولتين قامتا بتطبيع شامل وبشكل مخالف لروحية المبادرة، كيف يُريد أن يواجه ذلك؟». «الإنصاف» يستدعي هنا عدم تحميل موظفين في «الخارجية» وحدهم وِزر دولة غائبة بأكملها عن المشهد، من دون أن يُبرّر ذلك «عدم وجود نقاشات في الوزارة تنتج عنها عناصر موقف تُرفع إلى الرئاسات الثلاث»، بحسب أحد الدبلوماسيين. وحتّى إن وُجدت «لا تُحترم آلية اتخاذ القرار»، مثلاً النقاشات حول «قانون قيصر» حين رُفعت الاحتمالات والخيارات إلى الوزير السابق ناصيف حتّي، «كان الاتفاق أن لا نُرسل أي طلب إعفاء لأنّ ذلك سيُحتّم انتظار جواب من الولايات المتحدة الأميركية وإلزام أنفسنا به، بل استمرار العمل بشكل طبيعي وحين تأتي ملاحظة نُعالجها. ولكن أحد المدراء في الوزارة اشتغل العكس».
السياسة الخارجية بحاجة إلى تحديث مع التطورات الحاصلة
ينصّ نظام «الخارجية» على تولّيها إعداد عناصر السياسة الخارجية، وتنسيق وتنفيذ القرارات. يقول مصدر الوزارة إنّ هذا «مسار طويل يُعدّل ويُطوّر باستمرار، أما الثوابت فتظهر في البيانات الوزارية». هذا في الشق النظري، ولكن عملياً، «حين ترد المعطيات من البعثات، أو يطرأ حدث، يبرز أكثر من موقف والتناقض بين وزراء الخارجية ورؤساء الحكومات»، وآخرها بين نجيب ميقاتي – عدنان منصور، وسعد الحريري – جبران باسيل.
السياسة الخارجية «محدودة بالمواقف الداخلية للقوى السياسية»، بحسب وزير سابق للخارجية والمغتربين. تنوّع وجهات النظر وعدم الاتفاق على ثوابت، شكّلا «عذراً» لعدد من الدبلوماسيين «يُدينون بالولاء لمن عيّنهم أولاً، ويعتبرون أنّهم يستطيعون اتخاذ أي موقف، ويبقون محميين من قبل مرجعياتهم». العلّة الرئيسية تكمن في طريقة تعيين موظفي السلك، بصفتهم مُمثلين عن جماعاتهم السياسية والطائفية وليس كحُماة مصالح لبنان في الخارج. «هذا خطأ ويُضعف السياسة الخارجية»، يقول الوزير السابق. برز هذا «التنوّع» بالمواقف في محطات عدّة، إحداها مع المُرشح «المُستجد – الدائم» لرئاسة الوزراء، السفير نوّاف سلام. بين الـ2015 والـ2016، كانت بعثة لبنان الدائمة لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف تخوض معركة دبلوماسية لمنع تصنيف حزب الله كإرهابي، في حين أنّ مشروع مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك «كان اعتماد مبدأ غضّ النظر. وحين يغضّ البلد المعني النظر عن أمر يعنيه، يُشجّع ذلك دولاً على التصويت مع القرار»، بحسب دبلوماسيين. تكرّر ذلك في ملفّ اللاجئين، «ووقع الخلاف بين سلام الذي أيّد العودة الطوعية، والوزير باسيل الذي تحدّث عن عودة آمنة». استغل سلام مركزه لتمرير قناعاته السياسية، «وربّما يكون تعيينه قاضياً في محكمة العدل الدولية جائزةً عن تلك المواقف»، وهو بذلك ليس وحيداً. في زمن إعادة خلط الأوراق، والضبابية السياسية اللبنانية، «يعتبر بعض الدبلوماسيين حصول تعديل في ميزان القوى. يُحاذرون اتخاذ مواقف قد تُزعج الغرب ويُفهم منها دفاع عن حزب الله أو فريق 8 آذار، وقد تؤثّر على تولّيهم مراكز في المستقبل».