IMLebanon

الصيغة اللبنانية وأزمة المنطقة

في ظلّ العملية الجراحية التي تعيشها المنطقة العربية، من شمال أفريقيا الى بلاد الشام والعراق واليمن، تُمثّل التجربة اللبنانية على رغم عوراتها، جواباً على أسئلة كثيرة عميقة مطروحة حالياً. الشراكة السياسية وحقوق الجماعات والأقليات الثقافية، الاعتراف بالتعدّد والتنوّع ومنع المساس به بمادة دستورية، توزيع السلطة ومبدأ الإنماء المتوازن.

معظم النزاعات القائمة في المنطقة اليوم ذات وجهين، داخلي متّصل بمطالب وطموحات مشروعة للشعوب التي عاشت فترة طويلة في ظلّ أنظمة شمولية لا تعترف بالتعدّد وترفضه وتزدريه، وهي أنظمة قائمة في العمق على رؤى فلسفية وفكرية كانت ولا تزال موجودة، وتعتبر أنّ «الخلاص» بمعناه الدنيوي لا يكون إلّا جماعياً وأنّ الفرد بمختلف هوياته جزءٌ من كلّ ولا اعتراف به إلّا في الاطار الجمعي بلا فوارق ثقافية أو اجتماعية.

أما الوجه الآخر، فخارجي مرتبط بالمصالح الدولية والاقليمية التي رمت بنفسها فوق المطالب الداخلية للشعوب المطالبة بإصلاحات سياسية واجتماعية في بلدانها، ولم يكن أكثر الحالمين أو الطامحين من الشباب الذي خرج مطلع العام 2011، يرغب بأكثر من تخفيف القبضة الامنية وإطلاق الحريات العامة وتفعيل الشراكة السياسية.

ولكنّ قوة العامل الخارجي طغت على الدواخل العربية، فانفجر النزاع، وأصبحت الهويات الصغيرة التي تشكّل بمجموعها الهوية الوطنية أقوى وأفعل وأكثر رغبة بالتعبير عن نفسها، حتى ولو بأساليب وحشية.

والحال هذه، يبدو أنّ نصف المشكلة الذي تعيشه بلادنا داخلي. صحيح أنّ للخارج قدرات وأجندات وخططاً للمنطقة، لكنّه في سياق تأمين مصالحه يعمل على تأكيد التناقضات في كلّ دولة من دول الفوضى. وهو يستغلّ الغياب التام لمفهوم الهوية وفشل الدول الوطنية الحديثة التي ورثت سقوط السلطنة والانتدابات الاجنبية منتصف القرن الماضي، في خلق مفهوم واضح للمواطنة والحقوق والهوية.

بهذا المعنى يبدو النظام اللبناني أقوى أنظمة المنطقة، لأنّه بنيَ في الاساس على الاعتراف بالهويات الثقافية المتعدِّدة، وهذا ما يُسمّيه اللبنانيون الميثاق أو العيش المشترَك. والحقّ أنّ جوهر هذا الميثاق قام أولاً على اساس الهوية الأصغر فالأكبر، وتمّ تقسيم السلطة عرفاً بين المجموعات الثقافية أو الطوائف.

هذا التعريف اللبناني للهوية كان دائماً محطّ انتقاد وهجوم وتوهين وتسخيف أحياناً، لأنه في الواقع كان يواجه منطقتنا بحقيقتها. وعلى رغم تسبّبها بطغيان المجتمع على الدولة ومنع قيامها، وتأسيسها لمجموعة معقدة من المصالح الطائفية والمناطقية، ظلّت الصيغة اللبنانية عصيّة على الضمور والتلاشي والانهزام، على رغم تعرّضها لجملة من الحروب الداخلية والاجتياحات والاعتداءات الخارجية.

الحلول التي يجرى البحث عنها لأزمات المنطقة، في معظمها مستندة في مكان ما الى التجربة اللبنانية. أيْ إلى إعطاء الهوية الضيّقة في المجتمع المتعدِّد مداها وإفساح المجال لتعبّر عن نفسها، ولأن تتفاعل مع غيرها ضمن ميثاق عيش مشترَك يعترف بها ويعطيها مكاسب في «السلطة والثروة»، ولكن هل هذه الصيغ تعيد الاستقرار الى بلداننا في ظلّ طغيان المعطى الخارجي؟

لا نناقش هنا إذا كانت هذه الصيغة ملائمة لسوريا أو العراق أو اليمن أو البحرين. في كلّ دولة من تلك الدول ظروف وتعقيدات أكبر من الكلام النظري، ولكن علينا بعد الانتباه الى أهمية استدعاء «التجربة اللبنانية»، أن نسأل لماذا؟ وفي سياق أيّ مشروع يُحضّر للمنطقة؟ وماذا لو قرّرت كلّ هوية صغيرة أن تستقلّ؟

الصيغة اللبنانية هي التي حمَت لبنان من الحرب المشتعلة في المنطقة، لكنها قد لا تحمي المنطقة من حروب جديدة بمسميات جديدة. أليست الصيغة نفسها ولادة أزمات وحروب أيضاً؟

مصر وتونس قد تشذان عن هذه النظرية، لأنّ فيهما قدراً كبيراً من التجانس الاجتماعي، ودولة عميقة متجذرة اقوى من المجتمع وتعبيراته العنفية أو الراديكالية.