من خان يونس إلى باب المندب، يشهد الشرق الأوسط مواجهة شاملة بين إيران والتنظيمات العسكرية الموصولة عضوياً بها، في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين من جهة، والدولة العبرية المدعومة من الولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى. والسؤال الأهم: هل هي مواجهة محدودة، أم مسيرة نحو حرب شرق أوسطية كبرى؟ ولعل الصدام المتصاعد بين إسرائيل و«حزب الله» هو الموقع الأخطر في احتمال تحول المواجهة حرباً كبرى. فما الذي يحدث في عقل «إسرائيل العميقة» عند حدود لبنان؟
أيقظ يوم «طوفان الأقصى»، من حيث يدري صانعوه أو لا يدرون، كل الهواجس والمخاوف، ورفع على حين غرة وللمرة الأولى في الجانب الصهيوني – الغربي، وكرد فعل، في جانب المحور الإيراني، راية الحسم. إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا الحسم؟ قبل المواجهة الراهنة، كان الجانبان اعتادا منذ زمن طويل التعامل التكتيكي مع معطيات النزاع على مدى المنطقة، يحققان تقدماً هنا وتراجعاً هناك، وسط الكثير من التناقضات والحسابات المضمرة والشكوك حول النوايا الخفية تجاه المثلث الشرق أوسطي: العالم العربي – إيران – الكيان الصهيوني، وعلاقة هذه الأطراف الثلاثة بعضها ببعض وبالدول الكبرى. ترى وصلت الآن هذه اللعبة، التي دامت طويلاً، والتي شاركت فيها الصين وروسيا وتركيا أيضاً، إلى نهايتها. إلى أين؟
كيف تنظر «إسرائيل العميقة» إلى «جبهتها اللبنانية»؟ يعي العقل الصهيوني التناقض البنيوي في كيانه: نجاحه في خلق دولة قوية بالغة التطور في قلب المشرق العربي، وهشاشة هذه الدولة الحديثة العهد، التي قامت عكس التاريخ في زمن رحيل الاستعمار، فكيف بالاستيطان الذي يطرد شعباً من أرضه ويحلّ شعباً آخر مكانه؟ ولا شك في أنه يرى بقلق إلى حالة التحول الحربي الإيراني من الكمّي إلى النوعي (الموصولة بالصعود الديموغرافي الكبير حوله)، والمنعكسة بشدة على «حزب الله»، كما على «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وسائر الفصائل الموصولة بإيران في المنطقة. لقد طوّر «حزب الله» إلى حد كبير أسلحته وقدراته القتالية، والمواجهة معه أصعب مما كانت عليه في حرب 2006، أو خلال الحروب السابقة مع القوى الفلسطينية في لبنان. خصوصاً أن جبهة غزة مستمرة ومكلفة للغاية، بشرياً واقتصادياً وأخلاقياً، ومغرقة في سفك دماء المدنيين وتدمير أمكنة إقامتهم بلا رحمة، وتهجيرهم تهجيراً جماعياً شاملاً، تحت أنظار العالم.
ولا شك في أن العقل الصهيوني العميق يعي الآن، أكثر من أي وقت مضى، مدى تعقيد حركة التاريخ، ومدى خطورة الحسابات والألاعيب التكتيكية، كسلاح ذي حدين يمكن أن ينقلب فيه السحر على الساحر. كيف أن سياسة «فرّق تسد» في الشرق الأوسط التي اتبعتها أميركا أوباما، مدعومة من الغرب (وهي مستمرة في عهد بايدن بحيرة وإرباك)، في رهانها المضمر على التطوير العسكري الإيراني لإضعاف العرب، وفي دعم نظام «الإخوان المسلمين» في مصر، على أمل مده إلى دول شرق أوسطية أخرى، لتفجير كل التناقضات، لم تستفد منها في نهاية المطاف إلا إيران.
يُرجّح أن إسرائيل العميقة كانت تغض النظر عن هذه السياسة، أو تتماشى معها، شرط عدم وصول إيران إلى السلاح النووي. لكن من يستطيع رسم الحدود الدقيقة في مسار التاريخ؟ والدليل الأبلغ على ذلك، اتباع الكيان الصهيوني نفسه سياسة «فرّق تسد» الفلسطينية وما آلت إليه. إن انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، وتغاضيها في ما بعد عن تمويل «حماس» وتسليحها، كانا بهدف ضرب وحدة الشعب الفلسطيني وتقسيم جغرافيته والسلطة الناطقة باسمه، لتشتيت قواه والقضاء على حلّ الدولتين. ومن سخرية القدر أن كل هذه التكتيكات قادت إلى «طوفان الأقصى»، وإلى عودة فكرة الدولتين كحل وحيد للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.
جانب «الجبهة اللبنانية»، وعلى الرغم من وصول إيران إلى حدود الكيان الصهيوني الشمالية وإلى البحر المتوسط عبر «حزب الله»، لا بد أن تقدّر «إسرائيل العميقة» تقديراً بالغاً الانهيار اللبناني في أشكاله كافة. صحيح أن هذا الانهيار المهول لا تتحمله فقط مسيرة «حزب الله» من أربعين عاماً إلى اليوم، لكن هذه المسيرة لعبت دوراً أساسياً فيه، إلى جانب القوى السياسية والمالية والإدارية المتحالفة معها، أو المتعاملة ضمناً معها، أو التي تحظى بحمايتها، بحيث لم يعد للبلاد لا حدود ولا مؤسسات ولا دولة فعلية، وأضحى «حزب الله» ممثلها الوحيد في الحرب والسلم وعلى أرض الواقع.
قبل يوم «طوفان الأقصى» وبعده، وبمعزل عنه وعن ارتداداته، حقق الكيان الصهيوني انتصاره الاستراتيجي على لبنان، من دون حرب ولا من يحاربون، عبر التدمير الذاتي «للنموذج اللبناني»، الذي هو خصم الدولة العبرية ومنافسها الكبير في الشرق الأوسط، في المجالات الحضارية والثقافية والاقتصادية والإنسانية، وفي طبيعة الصيغة المجتمعية التعددية ومعناها، وفي الحرية ونمط الحياة والانفتاح على الحداثة والعالم، وكحلقة وصل خلاقة بين مجتمعات المشرق العربي، وكجسر تفاعل بين المشرق والغرب منذ آخر القرن السادس عشر، على مدى القرون الأربعة الأخيرة. وهذا التدمير الذاتي، الذي أدى إلى تقسيم فعلي، غير معلن للبنان، بين دولة الثنائي الشيعي، وما بقي من دولة لبنان الكبير، كان، بشكل مقصود أم غير مقصود، صنيعة قوتين أساسيتين: الطبقة السياسية والمالية والإدارية المفرطة في الفساد، ونهج «حزب الله» في التعامل معها، وفي تهميش مؤسسات الدولة وتفريغها من مضمونها وسلبها أدوارها.
ويعود السؤال نفسه: هل نحن ذاهبون إلى حرب شرق أوسطية كبرى؟ لا أرى احتمال المواجهة الكبرى ممكناً بين أميركا بايدن وإيران الوليّ الفقيه، لأسباب كثيرة، قديمة وحديثة. كما أن احتمال المواجهة الكبرى بين الكيان الصهيوني و«حزب الله» هو من الصعوبة بمكان. أقصى ما تبتغيه إسرائيل هو إبعاد «حزب الله» إلى ما وراء نهر الليطاني (القرار 1701) لتأمين حدودها الشمالية وتحقيق عودة سكان المستوطنات إلى قراهم. وهي ستسعى إلى ذلك بكل ما أوتيت من ضغوط عسكرية محسوبة وضغوط دبلوماسية دولية وتهديد ووعيد. وإذا فشل ذلك كله، تخوض ربما حرباً محدودة، ستجهد واشنطن وطهران في ضبط إيقاعها. وسواء تستطيع ذلك أو لا تستطيع، فهي لا تهدف في أي حال إلى «القضاء على حزب الله»، بل إبعاده عن حدودها، وتركه ينشغل في التناقضات اللبنانية. فإسرائيل العميقة تخشى قيامة «النموذج اللبناني» من رماده، ولا يضيرها قط تكريس حلّ التقسيم، أو هيمنة دولة الثنائي على كامل الكيان المنهك. وهي تدرك أن قوة «حزب الله» الحربية، مثلها مثل قوة سائر أذرع إيران في بقية الأقطار، وقوة إيران نفسها، هي وليدة تطور صناعي عسكري فعّال لكنه أحادي، وحيد الجانب، لم يأخذ في الاعتبار نواحي التنمية المجتمعية الأخرى، تشوبه نزعة القمع والهيمنة في الداخل، وقدر لا حصر له من النقمة ومن التناقضات الطائفية والمذهبية والقومية والإثنية والاقتصادية والثقافية وغيرها، تطبعه بالهشاشة وتتيح التدخّل في مكوناته.