ليست نظرية الصبر الإستراتيجي ملكية فكرية للنظام الإيراني وحده ومعه النظام السوري و«حزب الله» في لبنان، بل هي أيضاً ملكية خاصة بإسرائيل التي تصبر وتخطّط وتخوض الحروب العسكرية والأمنية وتحتفظ بحقّ القرار في الوقت المناسب. بين صبر إيران وحلفائها وصبر إسرائيل، هل انتهت فترة السماح التي أعطتها إسرائيل لقرار الحرب على الجبهة اللبنانية؟ وهل استفادت من دروس التجارب والحروب الماضية؟
منذ عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها حركة «حماس» في غزة في 7 تشرين الأول الماضي، هدّدت إسرائيل بحرب مدمّرة تعيد رسم خريطة المنطقة من خلال القضاء على الخطر الذي شكّلته «حماس» في قطاع غزة والخطر الذي يمثله «حزب الله» في جنوب لبنان، واعتبرت أنّ الحرب الجديدة التي تخوضها هي من أجل عدم تكرار ما حصل في 7 تشرين الأول. منذ ذلك التاريخ خاض الجيش الإسرائيلي حرباً بلا هوادة في غزة غير آبه بكل التحذيرات الدولية المتعلقة بالأضرار الضخمة التي تسببها، بينما اختارت أن تؤجل الحرب ضد «الحزب» الذي اكتفى بحرب الإشغال والمساندة مدركاً أنّ القرار الإسرائيلي كبير وقد يصل إلى طهران من خلال الإعتراف العالمي بحق إسرائيل في الردّ وبإبعاد خطر تهديدها بالزوال.
من حرب التأسيس إلى حرب البقاء
لم تكن إسرائيل جاهزة لعملية من مستوى «طوفان الأقصى». أقصى ما كانت تتوقعه عمليات محدودة واختراقات لا ترقى إلى مستوى الحرب الشاملة التي تكبّدت فيها خسائر بشرية ومعنوية لن تكون قادرة على محوها من تاريخها، إلا من خلال عملية عسكرية تقلب من خلالها كل المقاييس السابقة مهما كانت كلفتها. من الطبيعي أن تضع إسرائيل خططاً للمواجهة ولكنّها لم تكن جاهزة لخطة من هذا النوع. الدليل على ذلك أنها احتاجت إلى عدّة أيام حتى تستفيق من ضربة 7 تشرين وتستوعبها وتحصي أضرارها وخسائرها، لتبدأ الحرب المعاكسة مع إدراكها لكلفتها الكبيرة وكأنّها تخوض حرب بقاء أكبر وأكثر كلفة من حرب التأسيس في العام 1948.
عندما انتهت إسرائيل من محو آثار حرب تشرين 1973 وعقدت اتفاقي الهدنة مع النظامين السوري والمصري، اعتبرت أن خطر الحروب الكبرى التي تهدّدها قد زال، وأنّ باستطاعتها أن تذهب في اتجاه ترسيخ اتفاقيات سلام مع الأنظمة العربية، وقد بدأت طلائع هذه التوجهات مع اتفاقية كامب دايفد مع الرئيس المصري أنور السادات. ولكن منذ ذلك التاريخ بقيت الجبهة اللبنانية وحدها مشتعلة. على رغم أن الحرب في لبنان بدأت في تلك المرحلة في العام 1975 وانخرطت فيها منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات إلا أن جبهة الجنوب بقيت مفتوحة على أبواب جديدة من الصراع.
الشريط غير الآمن
في 14 آذار 1978 وجدت إسرائيل نفسها مضطرة لخوض معركة جديدة كبرى في جنوب لبنان. صحيح أنّها كانت تعتبر أنّ الحدود متوترة وأنّ عليها أن تستعدّ لمواجهات محدودة، ولكنّها تفاجأت بالعملية العسكرية التي نفّذتها مجموعة فلسطينية في 11 آذار من ذلك العام ردّاً على اغتيال ثلاثة من قادة حركة «فتح» في لبنان في نيسان 1973. ضخامة تلك العملية التي اخترقت العمق الإسرائيلي وضعت إسرائيل أمام تحدٍّ كبير. فقرّرت الردّ بـ»عملية الليطاني» التي هدفت من خلالها إلى إبعاد خطر المنظمات الفلسطينية عن حدودها على خلفية أن هذا الإبعاد يجنّبها عمليات القصف المباشر والتماس العسكري في أكثر من منطقة وموقع على الحدود. ولذلك لم تنسحب بشكل كامل واحتفظت بشريط حدودي تسيطر عليه.
اليوم بعد 46 عاماً تعود إلى النظرية نفسها من خلال المطالبة بإبعاد «حزب الله» عن الحدود. أحياناً هناك من يقول أنها تطالب بإبعاده لمسافة بعمق 7 كلم، وأحياناً هناك من يقول أنها تريد إخلاء منطقة جنوب الليطاني من سلاح «الحزب». لكنّها منذ عملية «طوفان الأقصى» أعطت الجهود الدبلوماسية الفرصة لإقناع «الحزب» بالتراجع سلماً، وإذا لم يتأمّن لها ما تريد، فقد تلجأ إلى الحل العسكري. ولكن هل هذا الحلّ يؤمّن لها الأمان الذي تريده؟ وهل يبعد عنها الخطر الذي يمثله «الحزب» الذي لا يتوانى عن التهديد بإزالتها من الوجود؟
خطة سياسية وعسكرية
سريعاً سقطت مفاعيل حرب 1978 وسقطت نظرية الشريط الذي يؤمن الأمن. احتفظت المنظمات الفلسطينية بقدرتها على اجتياز الفاصل الجغرافي واستمرت عمليات القصف بالصواريخ وعلى القيام بالعمليات الأمنية. ولذلك اعتبرت إسرائيل أن بإمكانها تغيير المعادلة على الأرض. لذلك كانت حرب 1982 مختلفة كلياً عن حرب 1978. خطّطت إسرائيل لها جيداً في ظل حكومة برئاسة مناحيم بيغن ووزير دفاع شرس هو الجنرال أرييل شارون. وربطت الخطة العسكرية بمشروع سياسي كبير يهدف إلى تغيير التوازات في لبنان من خلال وصول قائد «القوات اللبنانية» بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية. لذلك عندما حصلت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف في 3 حزيران 1982، كانت الخطة جاهزة وبدأ تنفيذها خلال ثلاثة أيام. وصلت القوات الإسرائيلية إلى بيروت. خرجت منظمة التحرير وياسر عرفات من لبنان عسكرياً، وانسحب الجيش السوري إلى البقاع وانتُخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. ولكن بعد اغتياله في 14 أيلول تبدّلت المعطيات.
في العام 1985 عاد الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء الشريط الحدودي. اعتقدت إسرائيل أنّ خروج السلاح الفلسطيني من المعادلة اللبنانية سيجنّبها حروباً مقبلة. ولكنّ رهانها سقط مع ولادة «حزب الله» الذي رسّخ وجوده العسكري خلال أعوام قليلة ليصبح القوة المسلّحة الوحيدة خارج إطار السلطة اللبنانية منذ العام 1990، ولتسقط مجدداً نظرية أنّ الشريط الحدودي يمكن أن يؤمّن الأمن للدولة الإسرائيلية. فعادت الصواريخ تسقط على شمال إسرائيل. خاض «حزب الله» ضد إسرائيل حربين متتاليتين شنّتهما في ظل وجود الشريط الحدودي. حرب تموز 1993 التي سمتها إسرائيل عملية «تصفية الحساب»، ودامت سبعة أيام وانتهت بوقف لإطلاق النار. وحرب نيسان 1996 التي سمتها عملية «عناقيد الغضب»، وانتهت بتفاهم سمي «تفاهم نيسان»، فتوقفت الحرب في 27 منه وتشكّلت لجنة ضمّت ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا وإسرائيل ولبنان لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار وعدم استهداف المدنيين وكانت تجتمع لمراقبة ومناقَشة الإنتهاكات من الجانبين.
إنسحاب غير مفيد
في حربي 1993 و1996 عملت إسرائيل على قصف أهداف محدّدة لـ»حزب الله» ودمّرت الكثير من البنى التحتية اللبنانية. ولكن كل ذلك لم ينهِ الحروب المفتوحة على تلك الجبهة الوحيدة التي بقيت مشتعلة من بين كل الجبهات العربية. وعلى رغم ذلك قرّرت إسرائيل الإنسحاب من الجنوب وإنهاء وظيفة الشريط الحدودي في 25 أيار 2000، ليبدأ بعد ذلك مسار جديد من الإنهيارات الأمنية والعسكرية. استفاد «حزب الله» من مراحل وقف إطلاق النار ليقوّي ترسانته العسكرية ويمضي قُدُماً في خطة بناء قدراته بينما لم تمتلك إسرائيل القدرة على الحدّ من هذه العملية، واعتبرت أنّها تحتفظ بالتفوق العسكري الذي يمنع «الحزب» من تشكيل أي تهديد جدي لها بينما لم يكن الواقع كذلك.
لم تتأمّن حماية إسرائيل لا من خلال الشريط الحدودي ولا من دونه. في 12 تموز 2006 اجتازت قوة من «حزب الله» الشريط الحدودي وتمكّنت من أسر جنديين إسرائيليين. لم تكن لدى إسرائيل خطة جاهزة للردّ مرتبطة بخيارات سياسية، ولكنّها كانت أمام استحقاق مواجهة هذا الخرق الكبير. لذلك كانت حرب تموز 2006 مجرّد عملية عسكرية تجاوز فيها الجيش الإسرائيلي الحدود اللبنانية ولكنّها بقيت من دون أفق سياسي وانتهت في 12 آب 2006 بالقرار 1701 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي ونصّ على سحب سلاح «حزب الله» من جنوب الليطاني، وعلى نشر الجيش اللبناني في الجنوب وزيادة عديد القوات الدولية ولكن كل ذلك لم يؤمّن الأمن لإسرائيل. استمر الهدوء منذ ذلك التاريخ حتى انفجر في 8 تشرين الأول الماضي في حرب الإشغال التي بدأها «الحزب» لمساندة «حماس» في غزة واعتبر فيها أمينه العام السيد حسن نصرالله أنّ الميدان هو الذي يقرر رسم المسار العسكري والسياسي.
التاريخ لا يعيد نفسه؟
سقط رهان إسرائيل على تأمين الأمن من خلال الإنسحاب من لبنان في العام 2000 ومن غزة في العام 2005. إيهود باراك اتخذ قرار الإنسحاب من لبنان وأرييل شارون اتخذ قرار الإنسحاب من غزة. اليوم تواجه إسرائيل الخيارات الصعبة في إنهاء مفاعيل الإنسحابين وتضع هدفاً لسحق «حماس» في غزة ولإنهاء سيطرة «حزب الله» العسكرية على الحدود، وتعود إلى نظرية الشريط الحدودي التي سقطت بالممارسة أكثر من مرة.
لن يعطي «حزب الله» إسرائيل بالسياسة ما عجزت عن تحقيقه بالحروب. يراهن «الحزب» على أنّ إسرائيل عاجزة عن شنّ حرب ضدّه في لبنان بالتزامن مع الحرب التي تخوضها في غزة. ويعتبر أنّها خائفة من خوضها لأنه يشكّل خطراً استراتيجياً عليها وقادر على تدمير أهداف كثيرة فيها. لا تستطيع إسرائيل أن تُبعِد عنها خطر «الحزب» من خلال إبعاده عسكرياً عن حدودها. منذ 7 تشرين الأول وهي تهدّد بحرب جديدة تقضي من خلالها على قوة «الحزب» في لبنان كما تريد أن تفعل ضدّ «حماس» في غزة. عملية عسكرية بحتة من هذا النوع تشكّل تكراراً لحروب 1993 و1996 و2006.
ولكن إذا كانت إسرائيل تريد أن تنهي مفاعيل انسحابها من غزة بالعودة عسكرياً إلى القطاع والبقاء فيه لإنهاء وضع «حماس» وخطرها، فهل تريد أيضاً إنهاء مفاعيل انسحابها من لبنان عام 2000؟ فهي ليست قادرة على إعادة خلق شريط حدودي جديد أثبتت التجارب الماضية أنّه لا يحميها. ثمّة مؤشرات تعتبر أنّ فترة السماح التي أعطتها إسرائيل للجهود الدبلوماسية قد شارفت على الإنتهاء. ولذلك إنّ مباشرة إسرائيل أي عملية عسكرية في لبنان للقضاء على «حزب الله» لا يمكن أن تبقى منعزلة عن عملية إعادة رسم خريطة المنطقة. فهل تملك خطة من هذا النوع؟ وهل التأخير في شنّ الحرب كان من أجل وضع مثل هذه الخطة التي لا يمكن أن تتأمن ظروف تنفيذها إلا من خلال تدخل دولي كبير يواكب أي عملية عسكرية ويتخطى مفاعيل القرار 1701 الذي بقي من دون تنفيذ، وصولاً إلى قرار جديد وفرض أمر واقع جديد؟ وهل الجهود الدبلوماسية كانت حجة لاستهلاك الوقت من أجل إنضاج هذه الخطة؟ ولذلك ترتبط المرحلة الجديدة بالسؤال: متى تبدأ الحرب؟