Site icon IMLebanon

من حكومات الطائف إلى حكومات الدوحة: الإرث السيئ

 

الاشتباك الدائر بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف على تفسير المادتين 53 و64 من الدستور، غير مسبوق بدءاً بحكومات ما بعد اتفاق الطائف وصولاً إلى حكومات ما بعد اتفاق الدوحة. ليس ثمة ما يشي بفضيحة في اشتباك مثير للجدل لا أسرار فيه

 

ما يجري بين الرئيسَين ميشال عون وسعد الحريري، واستمرار تعذّر اتفاقهما على تأليف الحكومة، مهمّ بمقدار ما هو مقلق. مبعث الأهمية أنهما يتصرفان أو يوحيان بأنهما وحدهما المعنيان بالتأليف بفعل صلاحية التوقيع المقيِّدة لكليهما في المادتين 53 و64 من الدستور. بذلك يخرجان على قواعد ثم أعراف اتُّبعت في العقود الثلاثة الأخيرة، ويُرسيان سياقاً جديداً لمَن سيخلفهما في ما بعد بتسليمهما بحصر المهمّة بهما. بيد أن الأهمية هذه تظل نظرية ما لم يكرسها تفاهم جديّ وحقيقي لتثبيتها سابقة، ولا تعدو – إلى الآن – كونها «تدلّعاً» على الصلاحية الدستورية. أما مصدر القلق، فيكمن في أن لا مرجعية، دستورية أو سياسية، يسلِّمان بالاحتكام إليها خلال تواصل اشتباكهما المفتوح وقراءتيهما المتناقضتين للنصوص. لا طرف وسيطاً بينهما، ولا أحد قادراً على إلزامهما. ليس ثمة مَن يعرف هل تؤلف الحكومة ومتى؟ لكن الأهم أيضاً أيّ من الرئيسين قد ينحني أولاً؟

 

لا شكّ أنه مدعاة للسخرية، التبصّر في بعض أرقام حكومات ما بعد اتفاق الطائف الذي عُدَّ تسوية وطنية أخرجت البلاد من الحرب. لا التسوية استقامت، ولا الأفرقاء اتّعظوا وتغيّروا، ولا الحروب توقفت متّخذة أشكالاً مختلفة تكاد لم تمرّ بها إبان الحرب العسكرية المنطفئة أو الموحية بالانطفاء. منها مذهبية، ومنها أمنية، ومنها أخلاقية، ومنها من داخل السلطة نفسها، ومنها اقتصادية معيشية، ومنها نقدية، وربما تُحمّل التسوية أيضاً حرباً وبائية كاليوم. لكنها أيضاً وَضعت في الحكم على امتداد المرحلة الطويلة منها، منذ عام 1990 – باستثناءات نادرة – فاسدين وكاذبين ومتملقين وناهبين وسارقين وقتلة.

إلى اليوم، إذا توقف العدّ، يكون انقضى في عمر عهد الرئيس ميشال عون سنة وخمسة أشهر (ما يوازي 506 أيام) من الشغور الحكومي الناجم عن استقالة حكومة دونما تأليف حكومة تخلفها، والولاية في الربع الأول من ثلثها الثالث. استغرق تأليف الحكومات الأربع – ولم تنته رابعتها بعد – ما بين 45 يوماً و252 يوماً. مع الرئيس السلف ميشال سليمان «التوافقي» الذي لم يجبه خصوماً ولم يُقترع ضده بمرشح والتقى عليه الموالون والمعارضون، لم تكن الحال أفضل، بل أردأ. أربع حكومات تعاقبت في عهده أهدرت سنة وتسعة أشهر منه (ما يوازي 638 يوماً التي هي أقل بقليل من ثلث الولاية) في شغور ما قبل تأليفها، ترجح ما بين 44 يوماً و320 يوماً. أما العهدان الأولان في ظل اتفاق الطائف، الأطول من العهدين اللذين خلفاهما بسبب تمديد ولاية الرئيس، فتثير أرقامهما الشفقة على أرقام السنوات الأخيرة: مجموع الشغور المرافق للحكومات الخمس لعهد الرئيس الياس هراوي (منذ حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990 بعد إدماج الإصلاحات في الدستور) بلغ 34 يوماً فقط ما بين ثلاثة أيام و14 يوماً، بينما مجموع الشغور المرافق للحكومات الست لعهد الرئيس إميل لحود بلغ 36 يوماً فقط ما بين يومين وخمسة أيام، باستثناء سادسة الحكومات هذه برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة التي تألفت بعد خروج سوريا من لبنان عام 2005 فتطلّب 20 يوماً.

يسهل تفسير أرقام ولايتَي هراوي ولحود، والمُدد الدنيا لتأليف حكوماتهما في الحقبة السورية صاحبة اليد الطولى في تحديد حجمها، وتوزيع الحصص والحقائب ما بين الحلفاء تبعاً لأوزانهم، وتحديد النصاب الموصوف. لم يُعطَ أيّ من الرؤساء الثلاثة – ولكل منهم حصته – نصاب الأكثرية المطلقة، ولا نصاب الثلثين، ولا حتماً الثلث +1 الذي لم يكن يخطر في بال أحد ولم يُعثر عليه حتى. حُسِبَ وزراء الرؤساء على أنهم – كوزراء الأحزاب الحليفة – جزء لا يتجزأ من نصاب الثلثين الذي تحكّمت به دمشق ووضعته بين أيديها. لم يكن لأي فريق أن يملك تعطيل جلسة لمجلس الوزراء بلا معرفة دمشق. بل لعل أطرف ما صار يُروى عن الحقبة تلك، في وقت متأخر بعد خروج سوريا من لبنان، أن عدداً وافراً من الوزراء الحلفاء لم يكونوا يتردّدون في تشغيل هواتفهم الخلوية إبان انعقاد الجلسة، كي يصغي إلى مداولاتها فريق مختص لدى اللواء غازي كنعان. جرّاء ذلك كان من الطبيعي أن لا يستغرق تأليف الحكومات سوى أيام قليلة، يصير إلى الاتفاق على معظمها قبل الوصول إلى استقالة الحكومة التي سبقتها. فلم تنشأ أزمة دستورية على تفسير المادتين 53 و64 المعنيتين بتأليف الحكومة، وكانتا تُطبّقان شكلياً دونما أي جدال فيهما، أو تناحر على نطاق صلاحية أي من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف (باستثناء ما حدث في استحقاق 1998 بين لحود والرئيس رفيق الحريري حيال المادة 53 أفضى – بصرف نظر سوريّ – إلى إقصاء الثاني).

 

في اشتباك الرئيسَين لا أحد يعرف هل تؤلّف الحكومة ومتى، وأيهما ينحني أولاً

 

 

تأليف حكومات الحقبة السورية واجهته لبنانية، لكن سلّم الصعود عليه يبدأ بغازي كنعان الذي يحمل الأسماء والحصص. عندما تتعدد التباينات والأطماع يصعد التأليف إلى عبد الحليم خدام لتذليلها، ثم منه عندما يصعب أيضاً إلى حكمت الشهابي الذي يفرض في نهاية المطاف الخيارات ويلزمها. عندما يصل التأليف إلى الرئيس حافظ الأسد يكون الأمر حُسم تماماً كي يباركه ليس إلا. قلّما كانت تجدي الشكوى والتذمر عنده. عندما أراد الحريري الأب، لأولى حكوماته عام 1992، صلاحيات اشتراعية وأخفق في الحصول عليها في بيروت ثم دمشق، لم يشفع له في الوصول إليها مقابلته الأسد عشية صدور مراسيمها. كان قد شاع عن المرحلة تلك «ودائع» لسلّم الثلاثي السوري تُحسَب في حصص الرؤساء والكتل.

على مرّ عهدَي هراوي ولحود، لم يُسمع عن حقائب سيادية أربع مع أن هذه انتظمت وقتذاك منذ حكومة كرامي عام 1990 (بعدما كانت الدفاع حصة كاثوليكية للوزير ألبير منصور في حكومة الرئيس سليم الحص عام 1989). لم يُسمع عن تمييز حقائب مدرارة عن حقائب ثانوية، إذ يكفي التوزير باعتباره تعبيراً عن رضى السوريين عن الموزَّر أيّاً علا كعبه. لم يُسمع عن تناحر على حجم الحكومات بعدما فرضت دمشق حكومة الثلاثين منذ عام 1990، ورضيت بعد ذاك باستثناءين فقط (حكومة الرئيس رشيد الصلح عام 1992 من 24 وزيراً وحكومة الحص عام 1998 من 16 وزيراً).

كل ما لم يكن يحدث قبل اتفاق الدوحة عام 2008، أصبح في صلب أعرافه مذذاك ولا يزال مستمراً.