ما من ازمةٍ الا وتجد طريقها للحل، ولا حل يتسم بالثبات والنهائية اذا كان حاصل تسويةٍ بين الأطراف المتصارعة على الأرض،وهذا ما يجعل الحل الذي تنتجه تسوية في مرحلة معينة عرضة للاهتزاز،كلما اهتز نصاب توازن القوى الذي انتجه، لاهّمَ، ان كانت هذه القوى داخلية اوخارجية . ولبنان كما هو حاله، تتوفر فيه الأرضية الذي تختبر فيه عادة أنماط الحلول التي تنتجها تسويات في كل مرة تختل فيها العناصر الداخلية لنصاب التوازن او تلك التي تنطوي على عوامل خارجية. وحين يكون لبنان بتكوينه الكياني وبنية نظامه السياسي هو نتاج تسوية كالتي جرت في ١٩٤٣،فلا غرابة ان تكون الحلول للازمات الدورية الحادة التي يشهدها هي نتاج تسويات ايضاً. وأزمة لبنان التي ينوء تحت وطأتها الان، ليست الوحيده التي عصفت به في عهده الاستقلالي،اذ سبق وشهد اهتزازات سياسية حادة على مدى العقود التي أعقبت نيله «استقلاله السياسي»، كان ابرزها احداث ١٩٥٨،وتلك التي انفجرت عام ١٩٧٥ . واذا كانت تسوية ١٩٥٨ انطوت في بعدها الداخلي على رزمة إصلاحات تناولت بنية الدولة بمحاولة إعادة تأسيسها كدولة مؤسسات، فإن تسوية ١٩٨٩ انطوى بعدها الداخلي،على ما اعتبر إصلاحات في بنية النظام السياسي. وفي الحالتين كانت التسوية تحظى بتغطية عربية ودولية،باعتبار ان لبنان يقع على خط التصادم بين الاستراتيجيات الدولية والإقليمية المتقابلة.
ففي تسوية ١٩٥٨ كان الغطاء العربي ممثلاً بدولة الوحدة ( مصر وسوريا) والطرف الدولي ممثلاً بالدولة الأميركية.وفي تسوية ١٩٨٩ اختصر الغطاء العربي بشكل اساسي بـ (دولتي العربية السعودية وسوريا) والطرف الدولي ممثلاً باميركا. وهكذا يلاحظ ان سوريا كانت حاضرة دائماً عبر انتاج الحلول للازمتين اللتين عصفتا بلبنان كما اميركا.
اما الازمة التي ينوء لبنان تحت وطأتها منذ اكثر خمسة عشر عاماً وبلغت هذه الأيام ذروتها ، فلم تتوضح معالم تسويتها حتى الان . وهذا الغموض الذي يجعل معالم التسوية غير واضحة، هو ان ازمة لبنان لم تكن في يوم من الأيام مرتبطة بمعطى الصراع الدائر في الإقليم كما هي اليوم وهو الذي يعاد تشكيله على قواعد جديدة،ابرزها ضعف المكون العربي فيه وتقدم قوى الإقليم الغير عربية للتموضع في اطاره ومنها الموقع الإيراني . وهذا الارتباط يعود الى اتخاذ لبنان منصة لادارة مشاريع ذات ابعاد إقليمية، ابرزها المشروع الإيراني المتغول في الواقع العربي،ومشاركة احد اذرعه العسكرية المحسوب على المكونات اللبنانية في الصراع الذي تشهده اكثر من ساحة عربية وبشكل خاصة ساحة سوريا.
ان ايران لم تخف ذلك، بل اعلن ذلك اعلى المراجع السياسية والأمنية والعسكرية فيها وفي اكثر من مناسبة،انها باتت تسيطر على أربعة عواصم عربية، وهي بغداد وصنعاء ودمشق وبيروت .وبعد انتخابات ٢٠١٨ وإعلان نتائجها ،صرح قاسم سليماني «بتنا نحوز أكثرية نيابية في البرلمان اللبناني».
هذا الموقف الإيراني لايحتاج الى كثير تأويلات والى كثير تفسيرات للوقوف على حقيقته ، بل هو شديد الوضوح لكونه اخرج موقف النظام الإيراني من المضمر الى العلن،ولم يعد بحاجة الى ممارسة التقية في التعبير عن حقيقته ،فهو عندما يعلن انه بات يسيطر على أربعة عواصم عربية تعيش اقطارها أزمات بنيوية،فهذا يعني ان إيران تطمح لان تقدم نفسها كطرف مقرر في رسم مخارج الحلول للازمات التي تعصف بهذه الدول ومنها الازمة اللبنانية. وهو ما بات امراً واقعاً في ساحة لبنان عبر اتكائها على «حزب الله»، كطرف لبناني هو جزء من التكوين السياسي للتشيكل السلطوي. اما وجودها في سوريا فيمليه حضورها الميداني المباشر عبر التشكيلات العسكرية والأمنية التي تديرها وتشرف على سير عملياتها بجانب النظام وهي التي استقدمتها من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان .
هذا الوجود للنظام الإيراني في سوريا،جعله واحداً من الأطراف التي تستدعى للجلوس على طاولة ترتيبات الحل للازمة السورية،بعدما تحولت سوريا من «لاعب» على المسرح العربي والإقليمي الى موقع «ملعوب» فيه. وان ايران التي تقدم نفسها على انها جزء من ترتيبات الحل في سوريا، تنظر الى لبنان بنفس المنظار،وهذا يفرض نفسه على تحديد سقف الموقف الذي ترسمه لفريقها اللبناني وفق ماتقتضيه مصالحها على مستوى الإقليم .
وبحكم ان سوريا كانت دائماً طرفاً في انتاج تسوية للازمات التي تعصف بلبنان بحكم عوامل التاريخ والجغرافيا، وهذا الدور لا تستطيع ممارسته الان،لانها تعيش تحت وطأة ازمة بنيوية حادة،وهي بحاجة للمساعدة على انتاج حلول لازمتها، فإن من يلعب دور العراب لانتاج تسوية لازمة سوريا هو «العراب الروسي» وهو الذي يفرض نفسه حكماً على القيام مقام الدور السوري يوم كانت سوريا تلعب دوراً في انتاج حلول لازمات دول عربية هي على تماس جغرافي معها ومنها لبنان. هذا العراب هو صاحب الدور المحوري الذي يعمل لتحديد انصبة القوى اللاعبة على الساحة السورية،ومنها النصاب الإيراني، فإذا ارتفعت اسهمه في سوريا،انعكس ذلك تلقائياً على ارتفاع منسوبه على الساحة اللبنانية، وذات الامر بالنسبة لضموره .
على هذا الأساس، فإن حجم التأثير الإيراني على معطى الساحة اللبنانية مرتبط بصيغة او أخرى بحجم تأثيراتها على الساحة السورية، وعليه فإن أي ترتيب او «توضيب « يتناول الدور الإيراني على الساحة السورية ينعكس مباشرة على دوره في لبنان . وعندما ينظر الى دور «حزب الله»، الذي ينخرط في تنفيذ الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم بأنه جزء من هذه الاسترتيجية، فإن حدود دوره في لبنان كما في الإقليم لاتقرره القيادة اللبنانية للحزب وان رغبت بذلك،بل تقرره الجهة التي توجه وتمول عملاً بمبدأ qui donne ordone . وان إحالة المسؤولين الايرنيين الى قيادة الحزب في لبنان للبحث معه بمعطى الوضع اللبناني عندما يفاتحون بحلول للازمة هو من قبيل التعمية على الحقيقة والمناورة التي يتقنها حكام طهران جيداً.
على هذا الأساس،فإن انتاج حل لازمة لبنان وبالنظر لطبيعة أدوار القوى الممسكة بالخناق اللبناني، يرتبط بإنتاج الحل في سوريا. وكل مايجري حالياً من اتصالات وتحركات لايعدو كونه سوى محاولات لاحتواء الوضع ضمن حدود الاحتواء لمضاعفات الازمة، ريثما تتوضح طبيعة الحل الذي سيرسو عليه الحل للازمة السورية وتتحدد فيه احجام أدوار القوى اللاعبة على ساحة سوريا ومنها الدور الإيراني. وهذا الارتباط يفسر تقدم الدور الروسي في الاطلالة على معطى الوضع اللبناني من بوابة المساعدة لتوفير مخرج لمأزق تشكيل الحكومة العالق في عنق الزجاجة باعتباره يمسك بإدارة الملف السوري ويدير مروحة العلاقات مع كل القوى الدولية والإقليمية التي تعتبر نفسها معنية بمجرى الصراع الدائرفي سوريا وعليها.
من هنا فان «الحج السياسي» للأطراف اللبنانية الى موسكو للتشاور سواء كانت طالبة او مطلوبة يجري على قدم وساق،لان روسيا التي تتولى الدور الأساسي في إدارة الوضع السياسي والعسكري بنسبة كبيرة،هي التي تتصدر الحركة لانتاج حل لازمة سوريا تتحدد فيه طبيعة النظام الجديد،وحجم نفوذ القوى التي انخرطت في ازمتها من موقع دعم النظام او معارضته ومنها الدور الإيراني والذي سينعكس حكماً على دور حزب الله وتأثيراته على الساحة اللبنانية .
ان ما هو مؤكد ومعروف، ان النفوذ الإيراني ماكان ليصل الى هذا المستوى من التأثير والتثقيل على ساحة لبنان، لولا التسهيلات التي وفرتها ساحة سوريا في ظل النظام الحالي، وهذا النفوذ ينتفخ او يضمر بقدر انتفاخه اوضموره في سوريا، وطالما ايران تعتبر ان نفوذها في لبنان هو ورقة قوة بيدها، فهي لن تتخلى عن هذه الورقة بسهولة وهي التي تعمل للتفاوض على دورها على مستوى الإقليم بالاستناد الى ماتعتبره أوراق قوة بيدها ومنها ورقة لبنان . لذلك ماعلى اللبنانيين الا الانتظار لمعرفة مآلات الحل في سوريا ومصير الدور الإيراني فيها لمعرفة مآلات الحل النهائي في لبنان .
على هذا الأساس ، وكي لايطول الاستغراق طويلاً في التفكير والبحث عن حل جدي ومستدام لأزمة لبنان،فإن الامر يتطلب : أولاً، إلغاء مفاعيل تعقيدات وتثقيلات العوامل الدولية والإقليمية الجاثمة على جسم لبنان ومنها التثقيل الإيراني، وثانياً، توفير أرضية لبنانية، الف بائها،إعادة تشكيل السلطة على أسس جديدة لاعادة انتاج نظام سياسي يقوم على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، ولا سبيل لذلك الا بقانون انتخابي جديد وطني يتم بالاستناد اليه إعادة تكوين السلطة التشريعية التي تنبثق عنها سائر السلطات وإقرار قانون استقلالية القضاء وتفعيل قوانين المحاسبة والمساءلة وتطبيق قواعد الحوكمة في تسيير القطاعين العام والخاص.
ان الانتفاضة استطاعت ان تحقق الاسقاط الأخلاقي للمنظومة السلطوية المغرقة في فسادها، والتغيير لايستقيم الا باسقاطها السياسي، وهذا مايجب ان يشكل ممراً اجبارياً لحل الازمة بكل ابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.