من مظاهر البلاء الذي داهم لبنان هذه الأيام، أن كبار المسؤولين في عواصم القرار يتداعون لإجتماعات متواصلة للبحث في الأزمة اللبنانية وتداعياتها المالية والإجتماعية، ومخاطرها على الإستقرار الداخلي الهش أصلاً، فيما المسؤولون اللبنانيون عاجزون عن التواصل مع بعضهم البعض، وغارقون في وحول الزواريب السياسية، واضعين مصالحهم الشخصية والفئوية فوق مصلحة الوطن.
الإنطباعات السلبية التي خرج بها الموفدون الدوليون بعد لقاءاتهم مع كبار المسؤولين، كشفت حجم الهوة التي تفصل أهل السلطة عن الواقع المتردي الذي يهدد لبنان، الدولة والنظام والطبقة السياسية برمتها، ومدى الإصرار على المضي قدماً في سياسة الإنكار، والقفز فوق المعطيات الجديدة التي أفرزتها الإنتفاضة الوطنية المستمرة منذ أكثر من خمسين يوماً.
المشكلة لم تعد بتشكيل الحكومة، بالنسبة لعواصم القرار المستعدة لتقديم العون والدعم لوطن الأرز للخروج من أخطر أزماته السياسية والمالية، بل بالعقلية القاصرة عن إستيعاب خطورة المرحلة، وضرورة الخروج من دائرة المناورات التقليدية، إلى متطلبات الخطوات الإنقاذية الواجب إتخاذها قبل سقوط السقف فوق رؤوس الجميع، وضياع فرص إمكانية الخروج من النفق المظلم.
المناورات التي سبقت تحديد موعد الإستشارات، ومحاولة تسمية رئيس الحكومة قبل إجراء الإستشارات الملزمة لرئيس الجمهورية، وعملية توزيع الحقائب الوزارية قبل صدور مرسوم الرئيس المكلف، وإنهاء الإستشارات مع الكتل النيابية، حسب القواعد الدستورية، كل ذلك يوحي بأن رئيس الجمهورية وفريقه السياسي مصرون على عدم الأخذ بعين الإعتبار التطورات المتلاحقة، سواء على الصعيد المحلي أم الخارجي، أو حتى بالنسبة للطائفة السنّية المعنية مباشرة بالرئاسة الثالثة، حسب الدستور اللبناني.
وكان التمسك بورقة ترشيح المهندس سمير الخطيب حتى اللحظة الأخيرة، من دلائل هذا الإصرار غير المبرر، والبعيد عن أرض الواقع، من قبل الوزير جبران باسيل وفريقه السياسي، رغم معارضة الحليف الأساسي، الثنائي الشيعي، لهذا الترشيح، وتكرار تمسكهم بوجود سعد الحريري على رأس الحكومة العتيدة.
وجاء تراجع الخطيب في دار الفتوى، وإعلان إنسحابه من البازار الحكومي، عشية موعد الإستشارات النيابية، ليشكل إخفاقاً جديداً لطريقة إداراة الأزمة المتفاقمة التي إتبعها فريق العهد عبر باسيل شخصياً، والذي كان من الأسباب الرئيسية للنكسة التي أصابت الولاية الرئاسية قبل أن تتم عامها الثالث، وما تبعها من إندلاع الإنتفاضة الوطنية التي زلزلت قواعد الطبقة السياسية الفاسدة.
على أن تكليف الحريري بتشكيل الحكومة، كما بات متوقعاً، في حال سلّم باسيل وفريقه بالفشل المستمر بإدارة الأزمة، لا يعني أن طريق الرئيس المكلف سيكون مفروشاً بالورود، لا سيما إذا تجاهل مطالب الإنتفاضة، ولم يتجاوب مع نصائح الدول المانحة، التي تركز على وجود عناصر من أهل الخبرة والإختصاص، والمشهود لهم بخلو ممارساتهم من الفساد، لتكون الحكومة الجديدة قادرة على إستعادة الثقة الخارجية والداخلية، وبمستوى وضع وتنفيذ خطة طوارئ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مالية البلد وإقتصاده، والإعداد لإنتخابات نيابية مبكرة بموجب قانون إنتخابي عصري، يحقق العدالة المواطنية لكل مكونات المجتمع اللبناني، ويمهد الطريق لتجديد الحياة السياسية، عبر إدخال دم جديد على الحركة السياسية، ويكون بداية لإحداث التغيير المطلوب في بنية التركيبة السياسية الراهنة، والتي ظهرت معالمها إبان الحرب البغيضة، والتي كرست نفوذها وأطبقت على السلطة منذ ثلاثين عاماً، معطلة الإصلاحات التي نص عليها إتفاق الطائف، وتم إعتمادها في الدستور الحالي.
نكرر… وللمرة الألف، أن أي حكومة لا يراعي تشكيلها «المعايير الدولية» في الشفافية والحوكمة، ومحاربة الفساد، حتى ولو كانت برئاسة الحريري، ستكون حكومة منهوكة القوى والفعالية، ولن تستطيع إقناع الدول المانحة بفتح أبواب المساعدات والقروض الميسرة، وتوفير عمليات الإنعاش السريعة التي يحتاجها الإقتصاد اللبناني، وخاصة أزمة السيولة النقدية التي تهدد الشعب اللبناني بقوته اليومي.
الأيام القليلة المقبلة ستحدد مسار الأزمة نحو الإنفراج أو المزيد من الإنهيار، لا سمح الله، على ضوء مدى تجاوب أهل السلطة في البلد مع متطلبات العمل الإنقاذي المطلوب.
فهل سيتخلى أهل السلطة عن سياسة المكابرة والمعاندة، أم سيتمسكون بتجاهلهم ويكتفون بإستيلاد حكومة منهوكة، من باب رفع العتب؟