IMLebanon

العدميّة السياسية… ماذا بعد؟

 

تفجير العنبر رقم « 12 أحد عنابر مرفأ بيروت الخارج عن السيطرة الشرعية لأجهزة الدولة الأمنية والقضائية،كما أثبتت تفاصيل رحلة المتفجرات المنطلقة من جورجيا الى مرفأ بيروت ورداءة المعالجات بين الإدارات المنهكة ومؤسسات القرار السياسيي والأمني المقيّدة، إجتاحت مفاعيله كلّ ما تبقى أو ما يخيّل للبعض أنّه موجود من الدولة اللبنانية.

 

سقوط الشهداء والجرحى وجسامة الخسائر الإقتصادية وتدمير جزءٍ تراثي جميل من بيروت كلها لم تستطع إطلاق إشارة حياة واحدة في جسد الدولة العفن وعقلها البائد، بل على العكس من ذلك أطلقت العنان لمبارزات سياسية فوق دماء المواطنين وإنهيار لبنان، وقدّمت في السياسة نموذجاً مماثلاً لجشع شراء العقارات المهدّمة أو لبيع المساعدات الغذائية أو لتعيينات الجهات المُشرفة على المساعدات. أجلّ في السياسة وفي المصالح الوطنية العليا عقول سماسرة تقدّم نفسها وتبيع وتشتري على مائدة النفوذ الإقليمي.

 

والجهد الدولي الذي أصبح لبنان قُبلته بعد انفجار المرفأ إعتبره العقل الإستثماري اللبناني إعلان إنتهاء عزلة لبنان وفرصة لتحسين ظروفه السيئة، مفترضاً سقوط حكومة دياب، الساقطة أصلاً أمام الداخل والخارج، كأنها إحدى التنازلات. ولا يبدو أنّ هذا العقل قادر أو راغب في تلقّي الرسائل الخارجة عن المألوف والمنهمرة بغزارة منذ سقوط قاسم سليماني بغارة أميركية على بغداد وحتى إعلان الرئيس ترامب عن اتّفاقية السلام الإماراتية – الإسرائيلية، مروراً بكلّ الضربات المجهولة للبنى التحتيّة الإيرانية وتفجير مرفأ بيروت.

 

لبنان الذي لم يمتلك أيٌّ من ساسته وقادته الجرأة لزيارة المناطق المنكوبة، وهم تعرضوا لأكثر من استجواب وأكثر من إتهام بالفشل والفساد من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومن الخارجية الأميركية، على لسان وزيرها بامبيو ومساعده دايفيد هيل ومن الرئيس الأميركي وعدد من المسؤولين العرب والأوروبيين، لا زالوا مستمرين في استعادة طروحات لم تعدّ عقول اللبنانيين تقوى على استقبالها حتى أولئك الذين ناؤا بأنفسهم قرفاً أو خوفاً أو يأساً.

 

إنفصال المجتمع اللبناني عن مستبيحي السلطة أصبح واقعاً لا يمكن إنكاره، وهو قابل للإتّساع ليتّخذ اًشكالاً وأطراً أكثر تعبيراً مع عجز الدولة المتزايد في تأمين الحاجات الأساسية، فلن تنجح كلّ التعيينات أوالادوار التي توكل الى الوزراء لزجهم في المشاركة والإشراف على المساعدات الإنسانية في استعادة الدور الرعائي للدولة. ويتجلّى إنفصام السلطة عن الواقع في هذا السيل من القيود والمواصفات التي تضعها لتشكيل الحكومة، فيما لا تقوى، رغم تمتعها بالأكثرية النيابية وسيطرتها على القرار الأمني والسياسي، على إطلاق مسار تسميّة رئيس للحكومة، حتى وفقاً للدستور الذي اعتادت إستباحته. هي تدرك أنها لم تعد قادرة على إغراء حتى أحد المتسلّقين للقبول بالتكليف، وهؤلاء يدركون بدورهم أنّ القبول لم يعد مغامرة برصيد سياسي بل أضحى تعريضاً للكرامات الشخصية للإمتهان. حكومات الوحدة الوطنية وسواها من التسميّات في القاموس السياسي التي كانت تستعمل كأوراق إعتماد أصبحت خارج الوعي المجتمعي وغير صالحة للتداول مع الخارج. ثم ما قيمة رفض التحقيق الدولي الذي أُدخل كشرط إضافي للتشكيل عندما يصبح الوطن كله، مدوّلاً!!؟؟ وكيف يمكن قراءة إرتياح المواطنين المنكوبين وذوي الشهداء والجرحى للمسؤولين الدوليين عندما سمعوا أنّ المساعدات الدولية لن تقدّم عبر المؤسسات الحكومية؟ أليس من قُبيل التأكيد على الإنفصام الكلّي بين السلطة والمجتمع؟

 

السلطة في لبنان دخلت ودون القدرة على العودة في حالة من العدميّة السياسية، فهي افتقدت الحيثية الشعبية والسياسية لأن جزءاً كبيراً من الجمهور اللبناني قد غادر طور البداوة السياسية، وهي تفتقر أساساً للحيوية في تحديد المصالح اللبنانية الحيوية لأنها صنيعة سلسلة من الوصايات الخارجية عليها. هي وفقاً لرأي القيمين عليها انتصرت على كلّ خصومها وحققت سيطرة كاملة على كلّ المؤسسات، وهي تجدّ نفسها في الوقت عينه دون أُفق، في نظر مؤيّديها وخصومها.

 

لا يمكن لهذه السلطة أن تدرك أنّ العناوين الوطنية بحاجة دائمة الى تجديد، وأنّ إدارة الصراعات حتى القومية منها تستلزم أدوات ومقوّمات جديدة، وطرق تحفيز مبتكرة لإشراك المجتمع، وأنّه لا يمكن قيادة الجمهور دون أن يشعر أنه جزء من الصراع ومن إدارته ومكتسباته، وليس فقط في خدمة مصالح وأصنام وطوباويات فكرية.

 

بعد هذه العدميّة السياسية الموصوفة، هل تدرك السلطة الى أين تأخذ لبنان؟؟؟….