يبدو واضحاً للمراجع السياسية والديبلوماسية حجم الصعوبات التي تحول دون التوصل الى مخرج، يقود الى فكفكة مجموعة الأزمات التي تفاقمت، الى ان فجّرت العلاقات اللبنانية – الخليجية من البوابة السعودية الكبرى. فكل المحاولات التي شهدتها الساحة اللبنانية وعواصم أصدقاء لبنان، لم تتوصل بعد الى ما يمكن ان يشكّل نقطة القفر لخريطة الإنقاذ، طالما انّ البحث باقٍ عن مخارج تقليدية لأزمات استثنائية. كيف ولماذا؟
لم يخطر ببال أهل الحكم والحكومة من الممسكين بزمام الأمور مباشرة او العاملين في الخطوط الخلفية للمواقع الدستورية وفي الغرف التي تُطبخ فيها القرارات قبل تكليف المؤسسات الدستورية ترجمتها، أنّ في الإمكان ان تنشأ أزمة كمثل التي أصابت العلاقات اللبنانية ـ السعودية، قبل ان تتحول أزمة مع مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي. فقد تصوروا لفترات متتالية انّ في الإمكان إمرار المرحلة وفرض امر واقع جديد لا بدّ ان تستوعبه المجموعة الخليجية.
على هذه الخلفيات السطحية التي تحكّمت بكثير من الإجراءات والمواقف التي اتخذها أركان السلطة، أُديرت الخطوات في السنة الماضية، وتحديداً منذ ان بنوا استراتيجياتهم التي تلت انتفاضة 17 تشرين 2019، بهدف شيطنتها في انتظار استيعابها، ولم يتغيّروا بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت، وكأنّ ما حصل قدر لا يرد، ولا بدّ من تجاوز تردّداته بأقل الخسائر الممكنة، رغم معرفتهم بالقدرات الهزيلة للدولة ومؤسساتها التي زادت منها الأزمة الاقتصادية والنقدية التي عصفت بالبلاد. فظهر عجزهم عن مواجهتها بكثير مما كان ممكناً من إجراءات حالت عنجهيتهم دون اللجوء اليها، على قاعدة «انا من يقرّر، وانا من يتحكّم»، إلى ان تحوّلت معظم الأزمات الوطنية الكبرى انعكاساً لخلافات شخصية، فنصبت المكائد والأفخاخ التي جعلت المواطنين أسرى حروب تصفيات داخلية سياسية طاحنة، في بلد لا يمكن ان ينتصر فيه او يلغي احد أحداً.
ومن هذه الوقائع والمعطيات بُنيت سياسات تجاهلت مختلف التحذيرات التي أُطلقت من الداخل والخارج لتدارك الأسوأ، فاستغلت الغيرة الدولية على لبنان والمساعدات المتنوعة التي جاءت لتلبّي حاجات اللبنانيين المنكوبين على مختلف المستويات من أجل تثميرها في المصالح الداخلية الضيّقة، ومن اجل تجييرها لمصلحة هذه القوة او تلك، من دون يسمح بأن تصبّ في مؤسسات الدولة ومناعتها. وتزامنت هذه الوقائع مع التراجع التدريجي الدراماتيكي للخدمات العامة. وبدلاً من ان تجمع النكبات المسؤولين لمواجهتها، تحوّلت مدار جدل عنيف اتخذ صبغات طائفية وسياسية ومناطقية، زادت من التردّي في العلاقات الشخصية بين المسؤولين الذين فُرزوا الى فريقين متناحرين جنّدوا في حروبهم ما استطاعوا اليه سبيلاً، من دون تقدير ما بلغته من انعكاسات على مصير البلاد والعباد، فتساووا في الظلم والفقر وفي حاجتهم الى أبسط مقومات الحياة اليومية.
وعليه، لم يكن مستغرباً ان يصمّ المسؤولون الآذان تجاه أي من النصائح التي أُسديت بضرورة تغيير المواقف من بعض القضايا الكبرى التي يمكن ان تنعكس سلباً على الوضع الهش في البلاد. فسقطت تجربتان حكوميتان، واحدة خاضها السفير مصطفى أديب لفترة وجيزة، ومن بعده الرئيس سعد الحريري الذي امضى 10 أشهر دون التوصل الى تشكيل حكومة. وبقيت الامور على ما هي الى ان شُكّلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وفق المعايير التي تتناقض والطروحات والمبادرات الدولية، وتباهى أهل السلطة باستعادة زمام المبادرة بقوة.
ولذلك، وبدلاً من أن تقدّم الحكومة النموذج القادر على البدء بالإصلاحات المطلوبة وتنفيذ الخطوات التي تعيد اعتراف العالمين العربي والغربي بها، تمادت في تأجيل المواقف المطلوبة، وبقيت أسيرة الخلافات والمناكفات الداخلية، فاستنسخت تجارب الحكومات المنهارة بسرعة قياسية، وفقدت الحدّ الأدنى من تضامنها، إلى ان تراكمت الأخطاء الشخصية والعامة ووصلت الى ما وصلت اليه في علاقاتها الخارجية، فانهارت كل مساعي ترميم العلاقات مع الخليج العربي ومع عدد من الدول، وتشابكت العقبات الداخلية من أمنية وسياسية واقتصادية وعدلية مع ما هو خارجي، وتهاوى بعض الإنجازات المحدودة وكأنّها لم تكن.
ليس المجال كافياً للدخول في كثير من التفاصيل، ولذلك يجد المراقبون انّ من واجبهم لفت النظر الى عقدة العِقَد التي تفجّرت مع الخليج العربي، بعدما نجحت بعض الخطوات المنفردة بإعادة ترميم ما انقطع من علاقات اقتصادية ومالية، وتمادت القوى اللبنانية المتورطة في ازمات المنطقة في تجاربها الخارجية الأمنية والسياسية والاعلامية، الى ان تفجّرت مجدداً مع المملكة العربية السعودية، وتوسعت ردّات الفعل على تصريحات وزير الإعلام لتطاول ما نُقل ويُنقل عن وزراء آخرين، منهم وزير الخارجية عبد الله بوحبيب، بعدما ترأس اجتماعاً يتيماً لما سُمّي «خلية الازمة» وانتهت مهمتها في يوم واحد، بعدما وضعت الحلول المرجوة على لائحة المبادرات الإقليمية والدولية وثبوت عدم القدرة على إنتاج اي حل داخلي.
وبناءً على ما تقدّم، تنصح المراجع الديبلوماسية والسياسية التي تواكب ما يجري في الداخل والخارج، في انّ المخارج التقليدية لم يعد لها اي اهمية. فالحديث عن اجتماع للحكومة يليه بيان اعتذار، لا تحتمله الحكومة التي اهتزت على وقع خلافات ترتبط بما حصل في شكل من الأشكال. وإن ذهب بعضهم الى استقالة وزير الاعلام، فقد بات الاقتراح وراء الاتصالات الخارجية، وإن قال بعضهم باستقالة الحكومة فقد سقط الاقتراح بتضامن «العدوين» الخارجي، نتيجة المواقف الفرنسية والاميركية والاوروبية، والداخلي على مستوى «الثنائي الشيعي» حركة «أمل» و»حزب الله»، اللذين رفضا منذ اللحظة الاولى المسّ بالحكومة بتركيبتها الحالية اياً كانت الظروف والأسباب الداعية إلى أي إجراء من هذا النوع.
وبعيداً من المحاولات التي تبحث عن حلول تقليدية لم تعد تجدي نفعاً في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد والمنطقة، وبقي أمام الباحثين عن مخرج انتظار ما تعكسه التفاهمات الخارجية على الداخل. فلا الإجراءات لإحياء المفاوضات حول الملف النووي الإيراني انتعشت، ولا المفاوضات السعودية ـ الإيرانية حققت اي إنجاز الى اليوم. وعليه، ستبقى الساحة الاقليمية والداخلية مفتوحة على شتى الاحتمالات، تقودها التجاذبات الخارجية بين المحورين، من دون ان يتبرّع احد بأي اقتراح. ولذلك، فإنّ الحديث عن خطوة روسية تلاشت قبل ان يتوسع الحديث عنها، والجامعة العربية في «حالة كوما» تحفظ الاستراتيجية المعتمدة لدى مجموعة دول الخليج، وبعيدة كل البعد عن لبنان ومواقف المسؤولين فيه.
وكل ذلك يجري، فيما يتمادى العجز الداخلي ويتبلور بأبهى مظاهره، لتبقى الساحة اللبنانية مفتوحة على شتى الاحتمالات، بعيداً عمّا يريده المسؤولون المحتفظون بصمت مدوٍ تتردّد «اصداؤه المكتومة» من عين التينة بنحو مستغرب ومن بعبدا بخفر، تاركين الكرة في ملعب رئيس الحكومة يداوي جروحه وجروح الآخرين، بعدما لجمت المبادرات الدولية كثيراً من الإجراءات العقابية تجاه لبنان على اكثر من مستوى مالي واقتصادي وتجاري، ومن دون ان تمسّ حركة السفر بينها وبين لبنان، الى ما هنالك من مجالات يمكن ان تقضي على ما تبقّى من آمال في انتعاش الوضع في البلاد، ويزيد من انسياقها غير المنضبط إلى الهاوية السحيقة.