لا يمكن تجاوز المفاجأة التي أحدثها بيان الخارجية السعودية الذي رحّب بـ«النقاط الايجابية» التي تضمنها بيان الرئيس نجيب ميقاتي الاثنين مؤكداً التزام حكومته باتخاذ الإجراءات اللازمة لتعزيز التّعاون مع المملكة ودول الخليج. وان قدم اولى الاشارات الايجابية لترميم العلاقات مع لبنان طرح السؤال بحثا عن الأسس المتينة التي قادت الى هذا التحول في ظل الغليان الذي تشهده المنطقة والعالم. وان تم ردّه الى المبادرة «السلحفاتية» العربية فمن فتح الطريق بين بيروت والرياض؟
لم يكن لبيان وزارة الخارجية الكويتية الذي صدر ليل الثلاثاء ـ الأربعاء الماضي الوَقع الذي تركه بيان وزارة الخارجية السعودية قبل ساعات منه بعدما استنسخا معا النص عينه مرحبين بما تضمنه بيان ميقاتي إثر الاتصال الذي جرى بينه وبين وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح من تجديد التزام الحكومة اللبنانية باتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة لبنان علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي» وتطلعها «إلى استكمال الإجراءات البناءة العملية في هذا الصدد وبما يساهم في المزيد من الأمان والاستقرار والازدهار للبنان وشعبه الشقيق».
فالحكومة الكويتية كانت صاحبة المبادرة التي اضطلعت بها لترميم العلاقات بين بيروت والرياض ومعها عواصم دول مجلس التعاون الخليجي بعدما حمل وزير خارجيتها مبادرته الى بيروت في زيارته الاخيرة ما بين 22 و23 كانون الثاني الماضي داعياً بالانابة عن دول الخليج وبعض الدول الغربية الى «اعادة بناء الثقة بين بيروت وهذه العواصم، مؤكدا رفضه ان يكون «لبنان منصة للتهجم على الدول العربية والخليجية». متحدثا عن سلسلة من الإجراءات التي يجب ان تتخذ من أجل وقف تدخل «حزب الله» في الشؤون الداخلية لهذه الدول وحرب اليمن واحداث متفرقة بتكليف ايراني شرعي بعد وضع يده على السلطة في لبنان كما ادعت السلطات الخليجية. كما بالنسبة الى وقف تهريب المخدرات اليها ووقف الحملات الاعلامية التي تستهدفها من اجل اعادة ترميم العلاقات بين لبنان وهذه الدول.
فقد تغير مشهد العلاقات اللبنانية ـ الخليجية منذ ان استدعت المملكة العربية السعودية سفيرها في لبنان قبل ايام قليلة من نهاية تشرين الأول العام الماضي، ولحقت بها اليمن والبحرين وطرد السفراء اللبنانيين منها، وقلّصت الإمارات العربية المتحدة مستوى حضورها بغياب سفيرها مُسبقاً عن بيروت، وغابت سلطنة عمان عن المشهد محيّدة نفسها عما جرى، وتمايَزت الكويت وقطر عن جاراتها الخليجيات رغم تنديدهما كما بقية هذه الدول بتصريحات وزير الاعلام جورج قرداحي من دون ان تصل الى مستوى سحب السفراء مع حرص الجميع على مصير مئات آلاف اللبنانيين العاملين في هذه الدول.
وعلى وقع هذه القطيعة الديبلوماسية غير المسبوقة تلاحقت الأحداث وتعززت الشكوك حول إمكان ترميمها بسرعة بفعل استمرار «حزب الله» في حملاته الاعلامية ورفض فئة من اللبنانيين الشروط السعودية والخليجية. وعليه، فقد واصلت الهيئات الاقتصادية المشتركة بين لبنان والخليج جهودها لتصحيح مسار العلاقات. تزامناً مع قيام الحكومة اللبنانية بمساع مكثفة لترجمة تعهداتها التي ضمنتها ردها على الورقة الكويتية – العربية بورقة لبنانية جوابية سلّمها وزير الخارجية عبد الله بوحبيب الى نظيره الكويتي في الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب الذي عقد في ضيافته في 30 كانون الثاني الماضي بعد أسبوع على إطلاق مبادرته مع مسلسل الكشف عن شبكات رَوّجت للرمان والليمون والشوكولا والشاي المخدر الى المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت، وهو ما لقي استحسانا خليجيا عبّرت عنه الكويت اكثر من مرة.
وبناء على ما تقدم طرحت مجموعة من الاسئلة عن الظروف التي دفعت في اتجاه هذه المتغيرات السعودية وما حققته المبادرة الكويتية بأبعادها المختلفة للبحث عن جديد ما زال مخفيا حتى اليوم. فكل ما ظهر ان الكويت لم تيأس فقد واصلت جهودها على رغم من المحطات الكثيرة المحبطة. وهو ما أكدته مراجع ديبلوماسية عندما قالت ان الكويت اعتادت المبادرات الهادئة والرصينة والصامتة الى ان وصفت بـ «السلحفاتية». فهي التي أعادت ترميم العلاقات بين قطر وجاراتها الأربع بعد عامين من الحصار والقطيعة الاقتصادية والديبلوماسية قبل ان تخوض التجربة مع لبنان مرة اخرى.
وعلى وقع هذه المؤشرات قالت المراجع عينها ان ما لا يجب تجاهله، بعدما بلغت المبادرة الكويتية اولى اهدافها في الأمس القريب، والتي تزامن الكشف عنها مع الإتصال الهاتفي الطويل للوزير الكويتي مع ميقاتي، ان الإتصالات الفرنسية ـ السعودية التي تواصلت بعد جولة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على دول الخليج قد تكون فعلت فعلها ايضا. فهي حققت ما لم يكن في الحسبان عندما بلغت ذروتها العملية مع تشكيل الصندوق المشترك لمساعدة لبنان، والذي أقرّ دفعة كبيرة من المساعدات التي ستصل الى الشعب اللبناني بمعزل عن السلطات والمؤسسات الرسمية اللبنانية. وهنا يكمن بيت القصيد، باعتراف هذه المراجع التي تعتقد ان مجمل هذه الجهود قد التقت عند الذي تحقق في الامس القريب بدليل اعتراف بعضها ولو سراً بأن العقوبات الديبلوماسية والاقتصادية ووقف استيراد المنتوجات اللبنانية ووقف كل أشكال المساعدات زادت من مأساة اللبنانيين جميعا ولم تصب «حزب الله» ومَن ارادت محاسبتهم حتى اليوم.
والى هذه المؤشرات كافة، بقي السؤال المطروح: من طلب من الرئيس ميقاتي تجديد التعهدات التي قطعتها حكومته في ورقتها التي ردت فيها على الورقة الكويتية؟ وما الذي تغير على مستوى أداء «حزب الله» والوضع في اليمن ودول الخليج العربي؟.
وعلى رغم من صعوبة الاجابة عن هذه الاسئلة تجدر الإشارة الى ان الحراك الذي تشهده المنطقة والعالم قد قلب كثيرا من المواقف وعدّل في مسارها. فعقب الحرب الروسية على اوكرانيا والقمة الاماراتية ـ المصرية – الاسرائيلية في شرم الشيخ ومصير المفاوضات النووية في فيينا وتلك الجارية بين الرياض وطهران والتي لم تصل بعد الى تحديد موعد الجولة الخامسة منها منذ تعليقها في 20 ايلول من العام الماضي وما يجري على خط أبو ظبي ـ دمشق قبل زيارة الرئيس السوري بشار الاسد وبعدها إليها وقبَيل وصول وزير خارجية ايران حسين امير عبد اللهيان في زيارته المزدوجة الى دمشق وبيروت في الساعات المقبلة، قد فرضت خطوة سعودية ـ خليجية ديبلوماسية بهذا الحجم الكبير تعيد المملكة الى الساحة اللبنانية على أبواب استحقاقات بحجم الانتخابات النيابية ومحاولة وقف التدهور الاقتصادي لتجاوز ما جرى بناؤه من عوائق امام اعادة ترسيم العلاقات بين لبنان والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي.
وختاماً تبقى الإشارة ضرورية الى انتظار ما سيرافق زيارة ميقاتي لقطر نهاية الشهر الجاري للمشاركة في «منتدى الدوحة»، وهي قد تكون مناسبة لعقد لقاءات تسبق او تلي عودة السفير السعودي وليد البخاري الى بيروت لتبيان حجم ما تحقق والمدى الذي يمكن ان تصل اليه الامور. فلننتظر.