تعيد مشاهد التظاهرات الشعبية الضخمة في باريس والمدن الفرنسية تلقائياً إلى الأذهان مشاهد تظاهرة سبق الشعب اللبناني أن قدمها إلى العالم سنة 2005 مثبتاً فيها تشبثه بقيم الحرية والديموقراطية، وأيضاً بوحدته الوطنية فوق كل شيء، وحدة بها انتصر بتحقيق مطالبه تباعاً من انسحاب للجيش السوري إلى إنشاء للمحكمة الدولية وإنهاء عهد الوصاية.
وعلى رغم أن تظاهرات الأمس حملت رسالة تضامن البشرية مع فرنسا في الحرب على الإرهاب، لن يستطيع المسؤولون وقادة الرأي فيها تجاهل وجه آخر للمعضلة وهي وجود نحو ستة ملايين فرنسي أو مقيم مسلم على أرضها، مما يجعل دينهم الثاني عدديا هناك، ويفرض البحث في السبيل الأنجح للتعامل مع هذا الواقع. فرنسا دولة علمانية صحيح، ولكن كيف توفق بين علمنتها واحترام الخصوصيات الثقافية للجماعات الدينية في ضوء صعود التشدد الإسلامي وجاذبيته، وعدم قدرة نسبة كبيرة من المجنسين والمتحدرين منهم على التأقلم مع حضارة الغرب؟ بعض المحللين يتوقعون هنا صعوداً شعبيا، وسياسياً لاحقاً للمتشددين الفرنسيين في رفض “الفرنسي المختلف”، على غرار “الجبهة الشعبية” بقيادة مارين لوبان، إلا أن إرادة الحفاظ على الوحدة الوطنية والرهان على التعايش بين أتباع الديانات والإتنيات في ظل مبادئ الجمهورية تظل أقوى في رأي آخرين، ما لم يطرأ ما ليس في الحسبان.
لدى اللبنانيين الكثير يقولونه في هذا المجال للعالم، المسيحي والمسلم، ولشعب كل دولة متعددة الدين. تحديداً للأوروبيين وفرنسا في اللحظة التاريخية التي يتواجهون فيها مع الإرهاب، انطلاقاً من خبرة طويلة في تعامل المسيحيين والمسلمين بعضهم مع بعض، وبالأحرى عيشهم معاً طوال أجيال وأجيال بحلوها ومرّها، حروباً وهدنات وحقبات سلام، إلى أن استقر اقتناع في وجدان الغالبية منهم بأن التمسك بالسلام والوحدة والتعايش في ما بينهم ليس مجرد قدر، بل هو خيار اختبر اللبنانيون قدرته على تخليصهم من أكبر الأخطار وانتصارهم على أعتى التحديات. فوق ذلك يستطيع اللبنانيون المسيحيون خصوصاً بما لهم من علاقات وثيقة تاريخية ربطتهم بفرنسا حتى سموها في حقبة من الزمن بـ”أمنا الحنون” أن يمارسوا دوراً يعز نظيره في تسليط الضوء على جوانب مهمة لايدركها العقل الغربي العلماني لفهم خصوصيات الإسلام والمسلمين والتوصل إلى علاقة صحية وسليمة معهم كمواطنين مثل غيرهم، على قدم المساواة مع بقية المواطنين في وطنهم. بدورهم المسلمون اللبنانيون سيكون عليهم مع بقية مواطنيهم إيصال رسالة إلى العالمين العربي والإسلامي أن الصراع السنّي – الشيعي كارثة بكل المعايير سواء في لبنان أو في العالم العربي.
من هذه الخلفية، وأيضاً بدافع من اقتراب ذكرى مرور عشر سنوات على “انتفاضة الاستقلال”، تدور مناقشات مغلقة في دوائر فكرية – سياسية داخل قوى 14 آذار تعيد قراءة ما جرى من مقدمات لهذه الانتفاضة وما تلاها في السنوات العشر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم تحت وطأة الانقلاب البطيء الذي نفذه أنصار النظامين الإيراني والسوري، كما تقارن بين انتفاضة لبنان وبين انتفاضات أخرى بعضها أحبط وتراجع وغرق في الدم كالنموذج السوري، وبعضها نجح كما في تونس. قراءة تبحث في العلاقة مع الرأي العام الذي كان الصانع الرئيسي للتحرك الاستقلالي ودور الأحزاب والقيادات السياسية، على أمل التوصل إلى إعادة تحريك المياه الراكدة وفتح كوة تطل على تيار يدعو إلى مجتمع مدني وحديث يتجاوز الطوائف ويتلاقى عند أهداف مشتركة تعزز فرصها في النجاح أزمات عميقة تتخبط فيها الطوائف وأحزابها ومرجعياتها على السواء.
لا يغفل المشاركون في هذا التوجه أن قوى 14 آذار ليست في أحسن أحوالها إطلاقاً، فسياسات أطرافها كثيراً ما تتباعد، وقياداتها التي أحسنت الانتصار بدفع شعبي فاق ما كانت تتخيله لم تحسن إدارة مرحلة ما بعد الانتصار. إلا أن ذلك كله يجب ألا يغيّب أهمية أن تظل قوى الاعتدال هي الأقوى في الشارع. على سبيل المثال: البديل من “تيار المستقبل” هو جماعات التطرف المسلح، أو الانتهازيون الذين لا يتورعون عن مساندة المتطرفين لغايات شخصية. والبديل من “القوات اللبنانية” أو حزب الكتائب هم الحالمون بفصل بين المسيحيين والمسلمين يبدأ في سوريا ويشمل لبنان، أو الانتهازيون الذين لا يمكن التسليم لهم بحكم لبنان على ما أثبتت التجارب معهم.
لا يغفل المشاركون ذلك وهم يقرأون مرة أخرى في مقالة سمير قصير “انتفاضة على الانتفاضة”.