Site icon IMLebanon

اللبنانيّون رهائن باخرتين 

من أبرز مظاهر اهتراء الدولة أن يتحوّل المؤقت والاستثنائي إلى دائم وثابت. فقد كان يفترض أن يكون الاعتماد على بواخر الكهرباء ظرفياً في انتظار إنجاز معملين لتوليد أكثر من 700 ميغاوات إضافية، إلا أنّ أكثر من ثلاث سنوات مضى، من دون أن ينجز أي معمل. هكذا ازداد الاعتماد على البواخر وارتفعت حصّتها في إنتاج الكهرباء من 18.5% إلى 27.5%

في نيسان 2013 وصلت أولى بواخر شركة كارادينيز لإنتاج الكهرباء إلى لبنان «فاطمة غول»، ثم تلتها بعد أشهر قليلة «أورهان بيه». الدولة اللبنانية، ممثلة بوزارة الطاقة، اتفقت مع الشركة على تزويد لبنان بنحو 270 ميغاوات بكلفة إجمالية تبلغ 293 مليون دولار. الاتفاق يتضمن أن تنتج البواخر الكهرباء بواسطة الفيول أويل الذي تشتريه مؤسسة كهرباء لبنان، أي أن المبلغ المدفوع للبواخر هو ثابت ويبلغ 5.95 سنتات لكل كيلوات منتجة، فيما الكلفة المتحرّكة (الفيول أويل) هي على عاتق مؤسسة كهرباء لبنان، وكانت تبلغ 10.3 سنتات في السنة الماضية قبل انخفاض أسعار النفط العالمية، لتتراجع اليوم إلى 6 سنتات لكل كيلوات.

بديل مؤقّت

يوم تعاقدت وزارة الطاقة مع الشركة صاحبة الباخرتين، بُرِّرَت الحاجة إليهما استناداً إلى خطّة وضعتها وزارة الطاقة تتضمن برنامج إنشاء معملي طاقة جديدين: إنشاء محركات عكسية في الذوق، إنشاء معامل إنتاج جديدة في دير عمار. وبالتالي كان لإيجاد بديل يغطّي النقص في التغذية بالكهرباء الذي سينتج من بدء الأعمال الجديدة.

هكذا بدأ الاعتماد على بواخر الكهرباء في انتظار «تباشير» إنجاز الأعمال في المشروعين المقرّرين اللذين خصصت لهما الحكومة نحو 760 مليون دولار. إلا أنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحوّل المشروعان إلى محور من محاور التجاذبات السياسية ولم ينجز أيّ منهما. السبب يكمن في تلك الثُّغَر المتروكة قصداً أو إهمالاً في العقود التي وقعتها الدولة اللبنانية ممثلة بوزارة الطاقة مع الشركات الملتزمة، أو في القرارات السياسية التي اتخذها مجلس الوزراء استناداً إلى التفسيرات المتناقضة من ديوان المحاسبة والخلافات السياسية الحالية بين وزارتي الطاقة والمال، ما ترك المجال مفتوحاً لضرب المشروعين.

إنجاز معطّل

فما حصل مع مشروع المحركات العكسية الذي تنفذه شركة دانماركية في الذوق، هو أن وزارة المال امتنعت عن دفع المبالغ للمتعهد لأن الاستشاري ذكر في تقريره أن المواصفات الفنية والتقنية مختلفة عمّا هو منصوص عليه في العقد الموقع بين وزارة الطاقة والمتعهد، وبالتالي إن دفع المبالغ المستحقة يستوجب إعادة عرض العقد على ديوان المحاسبة… إلا أن وزارة الطاقة تشير إلى أن مجلس الوزراء وافق على أن تطبّق الشركة المشروع وفق العرض الذي تقدّمت به والمواصفات المذكورة في عرضها! أما المتعهد، فهو يطالب بغرامات تأخير ودفع فواتيره مهدداً باللجوء إلى نادي باريس للدول المتخلفة عن السداد إذا لم تدفع الدولة اللبنانية 140 مليون دولار. حصلت تدخّلات لتفادي وصول الأمر إلى نادي باريس، فسدّدت الدولة دفعة للمتعهد على أساس استكمال المشروع والتفاوض معه على الغرامات، لكن تبيّن لاحقاً أن الدولة لم تباشر بالتفاوض بعد.

أما المعمل فقد أنجز بنحو شبه كامل، لكن تسلّمه من المتعهد يتطلب دفع الأموال وإجراء تجارب ربطه بالشبكة. ويفترض أن تضيف هذه المحركات العكسية نحو 270 ميغاوات على القدرة الإنتاجية، أي ما يغطي ثلاث ساعات من التقنين يومياً.

الطامة الكبرى هي في المشروع الثاني الذي يعتقد أنه أصبح خارج أي تفاوض أو نقاش سياسي. فالمشروع الذي يفترض أنه سيضيف 500 ميغاوات إلى القدرة الإنتاجية، تعرّض لأكبر نكسة بعدما ظهر أن العقد لم يتضمن بنداً واضحاً ينصّ على أن الضريبة على القيمة المضافة البالغة 50 مليون دولار هي على عاتق المتعهد. وانتقل السجال حول أن السعر يتضمن ضريبة القيمة المضافة أو لا يتضمنها، إلى سجال سياسي بين وزارتي الطاقة والمال وأدخل ديوان المحاسبة أيضاً على خط السجال ثم انتقل الملف إلى مجلس الوزراء… لكن المتعهد أعلن نيته فسخ العقد في أيار 2014، أي بعد أشهر قليلة على الالتزام، وفي نهاية 2014 أمهل الدولة 15 يوماً لتأكيد التزامها واستكمال الاستثمار، لكنه في الفترة الأخيرة يئس من المشروع وقرّر أن يعيد «العنفات الغازية» والمعدات التي سبق له أن تعاقد مع الشركة الموردة على شرائها تمهيداً لتركيبها في دير عمار، وبات المشروع بحكم المنتهي، وإحياؤه شبه مستحيل.

خيار مستدام؟

إذاً، أصبح الخيار المؤقت، أي البواخر المنتجة للكهرباء، خياراً شبه دائم، وبالتالي أصبح أكثر استدامة من المشاريع التي سبق أن وقعت عقود بشأنها ولم تنجز منذ ثلاث سنوات. وبالفعل بدأت المفاوضات بين وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان من جهة، وبين الشركة التركية من جهة ثانية، لتنفيذ أحد بنود العقد التي تسمح بزيادة الإنتاج إلى أكثر من 270 ميغاوات. أي زيادة الإنتاج عبر المولدات العاملة على الفيول أويل بمعدل 100 ميغاوات. كذلك اتفق على الاستفادة من المحركات العاملة على البخار بمعدل 10 ميغاوات إضافية، علماً بأن الشركة التركية لم تصرّح عن وجود هذه المحركات على متن بواخرها واكتشفت بعد إشكال حصل في بداية تنفيذ العقد في نيسان 2013 أن المحركات البخارية لم تكن موجودة ضمن العقد الموقع مع الشركة التركية، فضلاً عن أن هذه المحركات لا تولّد الطاقة بواسطة الفيول أويل، بل بواسطة البخار الناتج من المولدات العاملة على الفيول أويل، وبالتالي كانت هناك شكوك في أن البواخر التركية تشغّل المحركات البخارية وتقوم بفوترة الطاقة المنتجة منه على أساس محركات تعمل على الفيول أويل، ما يحقق لها ربحاً إضافياً مخالفاً لنصوص العقد.

لبنان رهينة البواخر

على أي حال، تقول مصادر الشركة إنه منذ خمسة أشهر، وبناءً على طلب وزارة الطاقة، عمدت الشركة التركية إلى تشغيل المولّدات الإضافية لزيادة الإنتاج بنحو 100 ميغاوات، ومنذ نحو شهر طلبت الوزارة تشغيل المجموعات البخارية لتزيد القدرة الإنتاجية للبواخر إلى طاقتها القصوى، أي 380 ميغاوات، وذلك سيكون مجانياً للدولة اللبنانية في انتظار موافقة الجهات المسؤولة.

إلا أن مصادر رسمية قالت إن العرض لزيادة إنتاج الكهرباء جاء من الشركة التركية، نافية أن تكون قد حصلت على الـ100 ميغاوات حالياً، أو الـ110 ميغاوات التي تتحدّث عنها الشركة التركية. وبحسب المصادر، فإن مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان وافق على زيادة استجرار الطاقة من البواخر، وخصوصاً أن الطاقة المستجرّة من سوريا توقفت، وينتظر أن تستكمل الموافقات لزيادة الإنتاج بالسعر المنصوص عنه في العقد، أي 5.95 سنتات لكل كيلوات. والقدرة الإنتاجية الحالية تبلغ 1650 ميغاوات، ما يعني أنه يمكن رفعها إلى 1760 ميغاوات بواسطة الإنتاج الإضافي من البواخر. وبالتالي تصبح نسبة الاعتماد على البواخر 27.5% من القدرة الإنتاجية الإجمالية مقارنة مع 18.5% قبل نحو ثلاث سنوات.

هذه التطورات أثارت مجموعة تساؤلات: إلى أي مدى سيكون هناك اعتماد على البواخر خلال الفترة المقبلة؟ هل يمكن أصلاً الاستغناء عن البواخر في ظل التأخر في إنجاز المشاريع الجديدة لمعامل الإنتاج المفترضة؟ هل أصبح لبنان رهينة البواخر المنتجة للكهرباء في إطار النهج الذي اتبع خلال السنوات الماضية لتدمير هذا القطاع؟ تنتهي مدّة العقد مع الشركة التركية في أيلول 2016، وبالتالي نحن على بعد سنة واحدة من أزمة متفجّرة يتطلب علاجها أكثر من سنة واحدة. نحن في الورطة أصلاً.