تحت عنوان «لبنان السيّد حقيقة عربية»،في نهاية الأسبوع المنصرم وفي قرية بيت مري في قضاء المتن الشمالي، أطلقت مجموعة متنوّعة من المؤمنين بلبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه، عربي الهوية والانتماء ــ الدستور اللبناني إعلانها تعبيراً عن قلق وطني حيال المخاطر الإقليمية المحدقة بلبنان وانحياز متمادٍ للسلطة نحو خيارات تنكّرت واعتدت على هوية لبنان ومعناه، وعلى دوره الطليعي في محيطه كنموذج لحداثة إنسانية وثقافية وقيمية بوجوه شتى. ما ميّز هذا الإعلان هو تنوّع مواقع اللبنانيين المجتمعين وغزارة تجربتهم، وهم الذين رافقوا متغيّرات وتحديّات جمّة واكبت مراحل نضوج الهوية اللبنانية وتحررها المتدرج، من الولاءات الإستعمارية حتى نهائيتها الدستورية التي عبّر عنها اتّفاق الطائف.
وفي معرض تأكيده على الإحتضان العربي للبنان على امتداد تاريخه الحديث المثقّل بالتجارب القاسية، أعاد الإعلان إلى الوعي السياسي العربي واللبناني العلاقة الجدليّة بين الإستقرار اللبناني والإستقرار العربي،وبين عروبة لبنان وعروبة المنطقة، محذّراً بأنّ سقوط لبنان كنموذج وكفكرة قابلة للحياة ــ في خضم الصراع الإقليمي القائم مع الجمهورية الإسلامية في إيران ــ سيؤدي إلى سقوط عروبة المنطقة برمّتها. في ذلك تأكيد على إسقاط خيار خاطئ، فمخاطر جنوح القوى السياسية التي تحكم لبنان على الأمن القومي العربي لن تنحصر في لبنان بعد خروجه من محيطه العربي، وفي ذلك أيضاً إصرار على المواجهة برغم التفاوت في ميزان القوى ودعوة واضحة للعرب لإنقاذ عروبتهم والإنضمام للقوى الحيّة اللبنانية التي اتّخذت خيارها.
سبق ذلك بأيام قليلة وبعد حفل تكريم أقامه موقع «أساس ميديا» لصحافيين سياديين في رأس بيروت،حيث أصدر المجتمعون، وهم نخبة متنوعة من مشارب إعلامية وسياسية مختلفة ـــ تجمعهم فكرة سيادة لبنان وهويته العربيةــ إعلاناًوصّف بشكل دقيق سقوط الدولة في لبنان وفشل مؤسساتها وعجز حكومتها، محذراً من خطورة الإلتحاق بخيارات طهران وداعياً إلى التمسّك بالدستور بمندرجاته كافة ولا سيّما هويته العربية ونهائيته كوطن لجميع أبنائه كسبيل لإنقاذ لبنان.
يشكّل الإعلانان بالرغم من اختلاف الأدبيات خلفيّة سياسية عربية البعد تستند إليها مكوّنات ثورة 17 تشرين السيادية. لقد وضعت الثورة في أولوياتها، ومنذ انطلاقها، مكافحة الفساد ومواجهة الإنهيار الإقتصادي واستقلالية القضاء وتشكيل السلطة وإجراء الإنتخابات، وهي مسائل حيّة ونابضة وقادرة على استنهاض المواطنين نظراً لصلتها بالحياة الوطنية ومقتضيات الحياة اليومية لعيش حرّ كريم. ولكن الثورة وبالرغم من صدقيّة خطابها،وفي معرض البحث عن قواسم مشتركة بين مكوّناتها وجبهاتها المختلفة، قدّمت مسألتيّ الإصلاح السياسي والإقتصادي على العناوين التي تخاطب العالم العربي والمجتمع الدولي، بما انحصر بطلب الدعم المالي والتقني ولم يتطرق لتقديم لبنان المنشود كدولة لها موقفها من القضايا العربية والدولية. ربما تكون هذه الثغرة هي إحدى نقاط الضعف التي عانتها كلّ الثورات في المنطقة، وربما يكون الجمع بين دعوات الإصلاح الداخلي والسياسات الخارجية المنشودة هو ما يستوجب إعطاء الثورة بُعدها المجتمعي الشامل، وإعطاء الشرائح كافة أدوارها. وبمعنى آخر تحويل الثورة من حركة تنادي بإصلاحات قطاعية، إجتماعية وسياسية ميدانها الشارع، إلى حالة مجتمعية تراكمية ومتفاعلةلها أدوارها المتقاطعة في السياسة والإقتصادوالإجتماع.
وعلى يمين ويسار الإعلانين المذكورين خطاب سياسي يعلو وينخفض لقوى سياسية سيادية مختلفة،حاذرت سابقاً الالتحام بالثورة أو ربما فشلت هيكلياتها الحزبية في استيعاب المتغيّرات بطريقة انسيابية بالرغم من نجاح الثورة في استمالة جماهيرها. هذه القوى مدعوة للإستجابة لمنطق شبابها ولحسم خياراتها الوطنية سيما أنّها تحققت أنّ منظومة السلطة القائمة لا تريد العودة إلى كنف الدستور،وهي انقلبت نهائياً على الهوية العربية ولا تتقن سوى دبلوماسية النفاق.وهي أسقطت أيضاً مبدأ فصل السلطات واستقلالية القضاء وكافة أشكال المشاركة السياسية، وتحوّلت الى أوليغارشية مالية وعسكرية لها حساباتها وتحالفاتها.
أما على ضفة السلطة بمكوّناتها السياسية والميليشياوية فخطاب عن الفساد يلقيه فاسد، وخطاب عن العدالة يلقيه مرتكب، وخطاب عن الحرية يلقيه من لا يعترف بأكثرية ولا يسمح لنقابة بإجراء انتخاباتها، وخطاب عن حماية المال العام يلقيه مهرّب، وخطاب عن السيادة يلقيه من يوزع الميليشيات من اليمن حتى البحر المتوسط. مأزق أي سلطة جديدة في لبنان أنه يتوجب عليها إعادة تعريف العدالة والأمن والسيادة والتحريروالمساواة وسواها من المفاهيم الوطنية البديهية.
مأزق تغيير الهوية ليس مأزقاً لبنانياً هو منهج يتماهى مع محور طهران بيروت مروراً بدمشق وبغداد وصنعاء، إعلان بيت مري كما إعلان رأس بيروت هما جرسا إنذار ينبغي ألا يتوقفا عند حدود توصيف لبنان كحقيقة عربية مكتملة العناصر، ولا يمكن أن يتوقفا عند من أطلق هذين الإنذارين وربما لا يجب أن يتوقف عند حدود لبنان. القوى المجتمعية اللبنانية برمّتها مهددة واللبنانيون مهددون بسقوط مواطنتهم بما هي لغة، ومعتقد سياسي وديني، وعادات وتقاليد، وأعراف وأصول وحق وباطل، والنماذج البديلة ماثلة من الأحواز إلى لبنان.
من بيت مري ورأس بيروت ينطلق مساران متماهيان كي يبقى لبنان حقيقة عربية.