IMLebanon

توحيد الساحات وقيم الإستقلال

 

لكل وطن قصص بطولة وحكايات من التاريخ وإرث ثقافي خاص به، ولكل قوميّة أو إثنية حقبات حضارية تُكلّل سردياتها العنفوانية لتؤكد على جذورها وحقّها بالاستمرارية، ولكل مجموعة نضالية قضية، ولكل دولة استقلال مُزخم بالقيم والمفاهيم والركائز التي تُطبّع هويتها. وهكذا، فخصوصية الاستقلال اللبناني أنّه غنيّ بمعاني الحرّيات والأسس الانسانية، ويرتكز على فلسفة تعايشية فريدة، وعلى تفاهمات دقيقة، وقناعات بالشراكة بين المتباينين، وعلى اعتماده صيغة، يبحث عن شبيه لها الكثير من الدول الغربية في ايامنا هذه، بعدما اختلّ استقرارها الاجتماعي مع وفود مجموعاتٍ نازحة من اقطارٍ بعيدة عنها في المسافات والاصول والثقافات والمعتقدات، ومخروقة بالايديولوجيات، وحاملة مفاهيم عيش مختلفة عنها تماماً.

 

واذا كان الاستقلال اللبناني قد نجح بصناعة دولة، ولم يُحقّق فقط ازالة انتداب، فلكلّ مُهدّد لهذا الاستقلال مشروع خاص به لإزالة الوطن، ولإقامة أوطان بديلة عنه، ولكل هؤلاء انتماءات فئوية ومرجعيات اقليمية، سقطت محاولات مشابهة لمشاريعها في السابق عند نيل اللبنانيين استقلالهم، عندما استطاع صهر كافة الفروقات في قيمه، فكان لبنان.

 

عندما نادى الاستقلال اللبناني بصيغة تفاهمية حافظة لهويات كافة الاطراف المتعايشين على الاراضي التي خُصّصت لدولة لبنان، لم يُلغِ شخصية أيّ منها، ولم يُهدّد قناعات أيّ منها، بل حقّق منصّة جامعة لها جميعاً، وأراح مفكّريها وقيادييّها في كتاب واحد. وكما كان السيد المسيح الجامع الكلّ، كانت قيم الاستقلال اللبناني الضامنة للكل، وكما السيد المسيح أيضاً المعلّم للكلّ، فكان دستور الاستقلال موجّهاً للكلّ، والمُساوي للجميع. وكان القرب لقيمه خيراً للبلاد والعباد، أمّا الابتعاد عنها فانقسام وخراب للكلّ.

 

ولأنّ القيم لا يكون الارتباط بها موسمياً، بل ثباتاً، فذلك يعني أنّها فعلياً «ثقافة الاستقلال» البعيدة كل البعد عن الحسابات الايديولوجية وعن التبعية لمشاريع أممية أو طائفية أو مذهبية، انها قيمٌ استقلالية لاغية لكل تلك الايديولوجيات، التي كانت تستعدّ منذ استقلال لبنان للانقضاض عليه وعلى صيغته وعيشه. واذا نجح الاستقلال اللبناني حينها بتجنيب البلاد ضربات تلك المشاريع، فإنّه الآن يقع تحت ضرباتها الواحدة تلو الاخرى، وآخرها، مشروع «حزب الله» الايديولوجي، الساعي بكل السبل «لالغاء الساحات». فالاستقلال حدود بين الدول والسيادات، فيما توحيد الساحات الغاء للحدود وللساحات الوطنية، لأنّ حدود الساحات الايديولوجية، ليست جغرافية ولا قومية ولا اثنية، بل فقط قمعية وفرضية.

 

يُراجع الانسان ذاته من حينٍ لآخر، ويُعيد حساباته بعد سقوطه في الأزمات. وكذلك الدول، فإنهّا تعاود طرح المشاكل في مجالسها واداراتها ومع خبرائها، لتقوم بالتعديلات اللازمة على المعايير المُتّبعة تجنّباً للسقوط في الخطأ مُجدّداً، ولوضع الحلول التي تُخرج البلاد من الازمات. والمراجعة الفعلية ليست اعتذاراً فقط، بل انّها محاسبة وتغيير «لا نستطيع حلّ مشاكلنا بذات العقلية التي اعتمدناها عندما خلقناهم» لم يضع البرت انشتاين هذه المعادلة الا بعد الكثير من الأخطاء العلمية والمعادلات الخاطئة التي وقع فيها، وصولاً إلى الاكتشافات العلمية الناجحة التي قدّمها للإنسانية جمعاء. أمّا في الحالة اللبنانية المستعصية، فالمحور الايديولوجي «الممانعة» الذي تخلّى عن الاستقلال ودستوره والشراكة وأطرافها، والمنطق وركائزه، والعقلانية وشروطها، فتح الساحة اللبنانية وشرّعها لوحدةٍ مع ساحاتٍ متخلّفة في المعتقدات والممارسات، فخسِر بذلك بلده، وشركاءه، ولم ولن يربح وطناً خاصاً به «الناس التي تُقيّم امتيازاتها فوق مبادئها تخسر الاثنين سوياً». فامتيازاته الايديولوجية لم ولن تمرّ، والمبادئ الوطنية التي تخلّى عنها كقيمة استقلالية لبلاده، ستبقى قيمةً لشركائه في البلاد لتهزم مشروعه.

 

إنّ تجاهل محور الممانعة الايديولوجي للاستقلال اللبناني ولدستوره ولسيادته أخذ البلاد إلى الاضطراب، والعودة للاحتكام إلى قيم الاستقلال هي الطريق الوحيد لعودة الاستقرار، فالمعادلة واضحة، وعقارب ساعة التاريخ تدور، والفرص تضيق، والساحات تتفجّر، فهل سيوصلنا هذا المحور إلى الترحّم على «استقلال الشراكة» والذهاب إلى «استقلال سيادتنا»؟؟؟