يُخطئ أي طرف سياسي أو أي مسؤول مستقلّ أو منتمٍ لخطّ ما، باعتباره أنّ التموضع الآمن في هذه المرحلة يكمن في خندق الإنتظار أو التلطّي وعدم تحمّل مسؤولية القرار، مُعتقداً أنّ ذلك يأويه من العواصف الهوجاء التي تهبّ على البلاد. فحقيقة الأمور أنّ الرياح تلفّ الأجواء بكلّ زواياها كونها داخلية بالأساس و»مشرّجة» من التيارات الإقليمية التي لا تنتهي ولا تهدأ. فالمرحلة التي دخلها لبنان باتت بعيدة كلّ البعد عن المناوشات التقليدية التي درجت عليها الأجواء السياسية في هذا البلد، الذي لم يشهد فتراتٍ طويلة من الاستقرار في تاريخه منذ الاستقلال، وأكثر الأدلّة على دخولنا الى مرحلة الحسم، ما يُمرّر للإعلام من أفكارٍ وطروحات ومن كافة الاطراف السياسية تشي بأنّ النيات باتت تصبّ بمعظمها في منطق الحسم.
إنّ الواقع السياسي يدلّ الى أنّ كافة الطرقات التي سلكها الأفرقاء المتصارعون قد وصلت الى نقطة الإلتقاء التصادمي، ولا تفرّعاتٍ لها، تسمح للبعض من المناوشين للهروب منها، فالحسم سيّد الموقف. الإنقسام الوطني مُتجذّر بشدّة، خاصةً بين الاطراف السياسية المُتميّزة بالنظرة الاستراتيجية، وقساوة المواجهة تتأكّد في التمعّن بحقيقة المشاريع المتضاربة، حتى بات الارتباط الوطني مُستغرباً ومُستبعداً، ليس فقط على صعيد الكوادر الحزبية المُنظّمة، بل أعمق من ذلك، ففي كيان الحالات الشعبية وعفويتها من دون إستثناء.
الإستثناء الوحيد الشاذّ للطلاق الواسع بين الفئات اللبنانية والبيئات المتعدّدة، نشهده في التكتيك المُعتمد من قبل طرف الدويلة والمُراهن حتى الآن على إبقاء الربط الإستغلالي لصالح إقتصاده غير الشرعي والذي يعتاش على مداخيل وواردات الساحات الأخرى، فالذهنية الريعية التي تميّز بها هذا المحور الإبتزازي تسمح له بأن يُمارس التهجّم والتخوين ضدّ المعارضين له في الداخل والخارج ومطالبتهم في الوقت ذاته بالتمويل لأعماله ودويلته، وكأنّها خوّات ينهبها من اللبنانيين وأصدقائهم تحت شعار فكّ أسر الرهينة «الشعب». إنّ الشراكة الوطنية الحقيقية تنصّ بكل المعايير الدولية على تضحية كافة فئات الوطن للصالح العام، ولا تنصّ على أن تنحصر التضحية بالأطراف المؤمنة ببناء الدولة واستعادة سيادتها لصالح مشروع ايديولجي قادم من الولي الفقيه في طهران.
الصراع في لبنان لم يعد محصوراً بين مشاريع داخلية هادفة لضمان الشراكة التحاصصية للأطراف المتنافسة، ولو بقي هكذا لكانت الحلول بالمستطاع، بل الصراع أصبح وجودياً، وامتداداً للصراعات الإقليمية المتفجّرة في العراق وسوريا واليمن، بين شعوب هذه الدول والمشروع التوسّعي للنظام الاسلامي في ايران. ولذلك يرفض هذا المشروع الغازي للبنان أيّ منطق لامركزيّ للحلول، الذي يضمن الشخصية الثقافية والانتاجية والمجتمعية المُكوّنة للمجتمع اللبناني، ويُنظّم التباينات والإختلافات ويُعيد الدور للعمل السياسي الطبيعي والمناوشات التقليدية الموجودة في كل أصقاع العالم. التهديد الوجودي مسألة لا يمكن التغاضي عنها، فالتاريخ العالمي يشهد بأنّ المجتمعات التي لم تُحسن قراءة التهديدات الحقيقية بالعمق، ولم تهبّ للدفاع عن ثقافتها قد خسرت نفسها وزالت عن الخريطة الدولية.
الحسم في المسألة اللبنانية ليس فكرة عدائية بل جرأة في الرؤية وقدرة على الطرح وصدق في البحث عن الحلول، أمّا تناول الشؤون الجذرية بشيء من عدم الجدّية وباستخفافٍ، فلا يحفظ الشراكة والحياد في بلدٍ كلبنان تميّز بالإهتزازات منذ الاستقلال. والحسم في التركيبة الداخلية اللبنانية وإعادة النظر في العلاقة بين الفئات المتنوّعة يُعدّ تدعيماً للعلاقات الصحيحة وللإنتظام العام وللحفاظ على لبنان الوطن. إنّ محاولات «القوات اللبنانية» لإقناع أطراف المُمانعة بالشراكة الوطنية لم تكن يوماً مناوشة سياسية، ومبادرات تكتّلات «القوات اللبنانية» الوزارية والنيابية لم تكن للمناورة، فالمطالبة الدؤوبة بضرورة إغلاق المعابر غير الشرعية وضبط المعابر الشرعية ووقف التهريب واستخدام لبنان منصّة للإرهاب وللتصويب على أصدقائه، ومحاربة الهدر في الخزينة اللبنانية، لم تكن لذرّ الرماد في العيون ولم تطرحها «القوات» كشعارات انتخابية فقط، بل عنتها من أجل تحقيق الدولة العميقة، أي من أجل الحسم لصالح بناء الدولة.
إنّ عدم قبول طرف المُمانعة بسياسة الحسم هذه، أدخل لبنان في المناوشات المُدمّرة التي أبقته في وضعٍ شاذّ فاقد للتوازن بين أطرافه، وخاسراً للعلاقات الصحيحة مع الدول الداعمة له. أمّا الحسم الآن فهو الحلّ الوحيد لانقاذه من المناوشات القاتلة، وما على الأفرقاء جميعاً إلا التصرّف على مستوى الأحداث التاريخية والمصيرية، فإمّا تسوياتٍ انتحارية، وإمّا حلول إنقاذية، فالجميع موجودون على ذلك الإلتقاء ولا منافذ جانبية للهروب.